العدد 3448 - الثلثاء 14 فبراير 2012م الموافق 22 ربيع الاول 1433هـ

«سلامة» بين المثقف والثورات

منى عباس فضل comments [at] alwasatnews.com

كاتبة بحرينية

ثمة علاقة جدلية وثيقة بين مفهوم الثقافة والمجتمع وما يحدث فيه من ثورات، فالثقافة تمثل منظومة أفكار وعلاقات متداخلة لا يمكنها التطور والارتقاء دون مجتمع حي يتسم بالتنوع ويعبر فيه أفراده بحرية عن ذواتهم وأفكارهم وقيمهم ومعتقداتهم، ولأن هذه المنظومة في حال حراك دينامي، كذلك المجتمعات التي تتغير أوضاعها بفعل الثورات.

الثقافة كما يراها عالم الاجتماع الإنجليزي «أنتوني غدير»: «وحدها التي تحوّلنا إلى بشر وترتقي بنا إلى المستوى الإنساني، بغيرها لن تكون لنا لغة نعبّر بها عن أنفسنا، ولا إحساس بالوعي الذاتي، كما ان قدرتنا على التفكير والتحليل ستكون محدودة وشبه معّطلة».

بهذا المعنى الثقافة في أبسط تجلياتها تعني لغة الإنسان وتعبيراته في شتى الأشكال والمضامين فضلاً عن علاقاته، وهي بذلك ليست كليشهات أو فاترينات للعروض ولا حجراً صماء لا صلة لها بعامة الناس ومعاناتهم ونشاطهم وإنتاجهم. هذا القول يقود لأسئلة كثيرة: أيمكن أن تتشكل ثقافة بلا مثقفين؟ من هم هؤلاء المثقفون؟ ما علاقتهم بما يحدث في مجتمعاتهم من ثورات؟ وهل في الثقافة التزام؟ هذه الأسئلة وتلك قادتني مجدداً إلى «كتاب الثورات» لسلامة موسى الذي ألفه العام 1955 واستلهمته بعد عشرين عاماً تحديداً في سنتي الجامعية الأولى فكان مدخلي إلى عالم السياسة.


الطغيان «جرعة سامة»

الكتاب يتضمن شروحاً ميسرة عن ماهية الثورات ونماذجها من حيث سماتها، أسبابها وعلاقتها بالمثقفين، ومنهم الأدباء الذين يعتبرهم مصدراً ملهماً لفعل الثورة، والتاريخ الحي عنده «ليس رواية يسجلها الذهن ويقنع منها بالتسجيل، وإنما هو مركب كيماوي يتسلل إلى خلايا المخ، فيبعث فينا الأحلام والأماني، ويحرك الذكريات ويهيج الجراح، ويصل بيننا وبين الأبطال، كما يثير الحنين إلى الضحايا، فيحدث التغير والتطور في نفوسنا، حتى لنعود ونحن أبطال، وحتى لنرضى أن نكون ضحايا». و»سلامة» في إطار تحليله عن أسباب الثورة يكتب: «صحيح (الملك فاروق) أفسد المجتمع، لكن هذا حدث بعد أن ورث تراثاً من الفساد عن أبيه، وبعد أن رأى طبقة عالية في المجتمع تحيط به وعوضاً عن أن تكسبه القيم الأخلاقية، أكسبته فساداً طاغياً. كان (فاروق) جرعة سامة تجرعناها، كدنا نموت منها، ثم جاءت الثورة فبعثت فينا الحياة وشملتنا فزادت الحيوية في حياتنا، والحرية كما ينقلها عن (فولتير) صحة للنفس، وقد كنا مرضى النفس طيلة حكم (فاروق)».


لماذا الثورات؟

تضمن كتابه المفيد مواضيع متنوعة ركزت على عنصرين من سمات الثورات، الأول: وجود اضطهاد وتعنت سابق لا يقبل المفاوضة ويؤدي إلى انفجار وانقضاض على قيود مفروضة صورها تكشف عن حكم جائر مستبد يسوده الظلم وتنعدم فيه عدالة التوزيع وقضاؤه فاسد. أما العنصر الثاني فيتميز بكون الثورات تنجب مثقفيها وكتابها وزعماءها ممن يؤمنون بمذهب حرية الإنسان، تماماً مثلما أنجبت الثورة الإنجليزية الشاعر «ملتون» الذي اشتهر بمقولة: «الحرية هي خير المدارس للفضيلة»، وكتاب الثورة الفرنسية «فولتير ودريدرو وروسو» الذين وقفوا في صفوف الشعب، ونادوا بالحرية والإخاء والشرف وحاربوا الرق والإقطاع مؤكدين أن لا حكم بغير دستور، ولا ضرائب بغير مراقبة البرلمان، ولا رقابة على الفكر والقلم، ولا انتهاك للعامل ومنعه من تأليف النقابات، و»روسو» الذي قال: «بوجوب قيام الحكومات وفق أغراض الشعوب، وإن بين الحكّومة وبين الشعب «عقداً» مضمراً هو ألا تعمل أيّ عمل يؤذي الشعب»، ومنه فالثورات تعني ما تعنيه من إيجاد حقوق جديدة للشعب وإلغاء القيود والإنحياز إلى الفقراء وحمايتهم من الفقر، ووضع حد للثراء الفاحش. لكن لماذا تحدث الثورات أصلاً؟

تاريخ الثورات كما يفيد «سلامة» غالباً ما يشير إلى وجود طبقة حاكمة مستبدة متسلطة غير منتخبة، لا تحس بمسئولياتها الاجتماعية فتنحل أخلاقها ويتزعزع تماسكها وهي تسرف وتتبذخ، لأنها تستهلك ولا تنتج، والشعب مع حالها ينتهي بالثورة عليها، والثورات تختلف باختلاف المجتمعات البشرية وثقافاتها فهي إما ثورات دينية، أو ثورة طبقات اجتماعية «طبقة وسطى أو عمالية»، أو ثورات الشعوب على الاستعمار والاحتلال أو الدكتاتورية والفساد والتمييز العنصري والمذهبي والطائفي أو الإثني.


نتاجات ومواقف عار على الثقافة

وحيث للمثقف والمبدع ورجل الأدب مسئولية وعلاقة وطيدة بالثورة وأينما حل الظلم تدفعه للوقوف مع الحقيقة فإن «جان بول سارتر» يشدد هنا على مسئولية الكاتب بتسمية الشيء أولاً، لأن اللغة توحي لنا بالفكرة، وتسمية الشيء توجد هذا الشيء وتجعله حقيقة، كما يتفق معه «سلامة»: «بأن الشعوب تحتاج إلى كتّاب أمناء يمتازون بالقلب الحيّ، والضمير المتيقظ، ولو أي مجتمع امتاز بأمثال هؤلاء، لما تجرأ أي حاكم على ممارسة الظلم والفسق إلى الحد البشع الذي بلغه»، مضيفا «لقد رأينا كتاباً ساوموا على ضمائرهم وفسقوا بعقولهم، ومدحوا «فاروق» وأباه بالنثر والشعر، ودافعوا عن حل البرلمان 1925، وبعضهم نال رتبة الباشوية لأنهم أيدوا «الملك فؤاد» في وقف الدستور العام 1928 ثلاث سنوات تقبل التجديد، وكتاب آخرين دافعوا عن «إسماعيل صدقي والملك فؤاد» لأنهما ألغيا الدستور سنة 1930، وشعراء ألقوا القصائد في مدح «فؤاد وفاروق» في مواقف كان كلاهما يستحق منها الذم والطعن، لقد كانوا كاذبين في أشعارهم، كذب «شوقي» في قصائده التي لا تحصى عن «عباس وفؤاد وفاروق»، وهي قصائد ستبقى عاراً على الأدب المصري، ولم يكن وحيداً في هذا الكذب فإن عشرات غيره من الشعراء مدحوا وكذبوا.

ويستطرد «سلامة موسى» في الكشف عن الوجه القبيح لانحياز المثقفين والمبدعين أثناء الثورات للحكام والجاه، ويعري أنانيتهم وتناقضاتهم مع مبادئهم قائلاً: «ميزة المثقفين والكتاب أن يحسوا أكثر، يتمسكوا بالمبادئ ويسيروا مع النهضات البشرية، ألا يستضعفوا ويحنوا الرؤوس ويجثوا على الركب، إذ على النقيض هناك غيرهم ممن عرفوا الحرمان والاضطهاد والنفي وكانوا يتحدثون في همس ويفكرون في صمت، ويؤلفون ويطبعون الكتب في الخفاء، لكن الأمل لم يفارقهم بل كان غذاءهم الروحي. إن قيمة الأدب والإبداع في أي ثورة تعلو على كل قيمة أخرى، والمثقف والأديب يسبق الثورة ويهيئ لها بأفكاره وكلماته ومبادئ الحرية وسيادة الشعب، ثم يأتي بعدها يستنبط منها ويرتفع بها إلى الإنسانية، أن يرى الظلم فيتوتر ضميره، يغضب ويثور ويؤلف، ولهذا قيل إن الأدباء ممن يقفون إلى صف شعوبهم هم أقرب الناس إلى الأنبياء من حيث أداء رسالتهم.

بيد أن في واقع الربيع العربي بثوراته وانتفاضاته الشعبية، ثمة فئات من المثقفين والمفكرين والمبدعين فضلت الوقوف إلى صف الأنظمة ضد الشعوب، فخانوا ضمائرهم وبرروا نهج البطش والتنكيل وغضوا الطرف عن القتل، ارتعبوا من المجاهرة بالحقيقة تحسباً لخسارة مكاسب ومصالح مادية. هنا لا مبالغة في خلاصة «سلامة» التي مفادها: «الأدب للشعب وليس حلويات يتمزز بمضغها العاطلون الناعسون، وإنما هي كفاح، لكن أي كفاح؟ هو كفاح الشعوب للاستبداد وللقرون المظلمة، ، وللاستعمار وللاستحجار، والكفاح ليس مقصوراً على طبقة وإنما هو خاصة الشعب وحق نسائه قبل رجاله»

إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"

العدد 3448 - الثلثاء 14 فبراير 2012م الموافق 22 ربيع الاول 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 3 | 1:12 م

      امرأة يفتخر بها الرجال

      لربما وجدت مساحات للتعبير والتعليق على أغلب المقالات, إلا أن مقالاتك الرائعة التي تمس جوهر الحقيقة ومحور القضية لتصل إلى خيوطها الشائكة قد سلبت مني كل أدوات التعليق, لتترك لي عبارة مفادها أن سيري على منهج التحرر من العبودية والله يحفظك من كل شر ويؤجرك على هذا الشموخ الذي عجزت عنه رجالات الدرهم والدينار, , ولك منا خالص الدعاء

    • زائر 2 | 1:06 م

      امرأة يفتخر بها الرجال

      لربما وجدت مساحات للتعبير والتعليق على أغلب المقالات, إلا أن مقالاتك الرائعة التي تمس جوهر الحقيقة ومحور القضية لتصل إلى خيوطها الشائكة قد سلبت مني كل أدوات التعليق, لتترك لي عبارة مفادها أن سيري على منهج التحرر من العبودية والله يحفظك من كل شر ويؤجرك على هذا الشموخ الذي عجزت عنه رجالات الدرهم والدينار, , ولك منا خالص الدعاء

    • زائر 1 | 4:52 ص

      المعاناة تصنع المعجزات

      الاخت منى
      مقالك من اجمل ما كتب اليوم لا ن فية اسقاط على واقعنا العربى المعاصر ..اعتقد اننا فى زمان علت فية المصالح الذاتية فوق المصلحة العامة لا املك تحليلا لهذا الامر المؤلم ..سوى ان معظم الخاصة ادمنت الخنوع ..وعلت مصالحهم الشخصية فوق كل الاعتبارات
      لذا خرج العامة الى الطرفات ...لا تزعلى يا اختاة هذة سنة الحياة ..فالمعاناة تصنع المعجزات فى كل حقول الحياة

اقرأ ايضاً