العدد 3455 - الثلثاء 21 فبراير 2012م الموافق 29 ربيع الاول 1433هـ

غذاء الربيع العربي وبيئته

علي محمد فخرو comments [at] alwasatnews.com

مفكر بحريني

ستحتاج الثورات العربية، خصوصاً الناجحة منها، إنجاز ثلاث مهامٍ لدعمها وإغنائها.

أولاَ: ستحتاج إلى تأسيس فكري نظري وعملي يؤطٍّر مسيرتها الحالية وفي المستقبل القريب على الأقل. فالثورات كثيراً ما تبدأ كشعارات وأهداف مبسَّطة لتستطيع الجماهير فهمهما والوقوف معها. لكن تلك الشعارات والأهداف سرعان ما تتعرَّض للتَّشويه أو الاختلاف على تفاصيلها أو لفَّها بأقنعة تجعلها غامضة ومهيَّئة للضعف والسَّقم وصولاً لموتها البطيء

ثم إن الثورات هي كائن حي يحتاج لبيئة لا تحتضنه فقط وإنما تغذيه أيضاً. وعليه فالبيئة المشوَّشة القلقة المتخلفة، ثقافياً على الأخص، ليست بالبيئة الصالحة لذلك الاحتضان ولتلك التغذية. كل ذلك ينطبق على الثورات العربية ويطرح سؤال: ما العمل؟

العمل هذا، ليس في الأساس من مسئوليات الشباب الثوار، فهم مشغولون بالنٍّضال والتضحيات والتعبئة والإنجاز في الواقع والحماية. العمل هذا من مسئولية المفكرين العرب الملتزمين بقضية الثورة، وعلى الأخص الملتحقين بمسيرتها. على المفكرين تقع مسؤليتان.

المسئولية الأولى تتمثل في التعامل مع البيئة المجتمعية العربية تعاملاً يساهم بشكل فوري وعميق في تغييرها لتكون صالحة لاحتضان الثورات وتغذيتها. هناك حاجة لوجود تيار عريض من المفكرين القادرين، بشجاعة وبتضحيات وبتركيز شديد وبتناغم مع بعضهم البعض، على تحليل ونقد وتجاوز كل عوامل التخلف المجتمعي، من طائفية وقبلية وعشائرية وممارسة لشتَّى أشكال التعصُّب والانغلاق والعيش في عوالم الأساطير اللاعقلانية والالتصاق بالجامد المضرّ من التراث والشعور بالهوان والنَّقص تجاه الآخر والخوف من العصر والهرب من متطلباته، والقائمة طويلة كونتها عصور الانحطاط والنوم الحضاري.

سيخطئ المفكرون العرب إن وقفوا يتفرَّجون أو تعاملوا مع هذا الموضوع ببطء وبمجهودات فردية متناثرة أو اعتقدوا بأن وهج الثورات ذاتها سيتكفَّل بذلك. إنهم عندئذ سيضاعفون من مسئوليات الثورات ويرهقونها.

المسئولية الثانية هي في بناء منظومة من قيم وممارسات جديدة. مثلاً هناك فقه فقهاء السلاطين الذي روّج للصبر على الاستبداد وزيَّن الطاعة العمياء لولي الأمر. إنه بحاجة لأن ينتقد بشدَّة وتجتث أصوله الفكرية وقراءاته الخاطئة لدين الإسلام، رسالة الحق والقسط والميزان، ليحلَّ مكانه فقه الحرية والكرامة الإنسانية ومحاسبة الظالمين والوقوف في وجه كل أنواع القهر والاستبداد. مثل آخر، هناك قيم العلاقات الأبوية المشخصنة بين الحاكم والمحكوم في الحياة السياسية العربية والعلاقات الأبوية البطركية الفحولية المستبدة بين الرجل والمرأة في محيط العائلة وبين التلميذ وأستاذه في المدرسة وبين الشيخ الفقيه وأتباعه في المسجد وبين الزعيم وأعضاء الحزب في مؤسسات المجتمع المدني السياسية. تلك قيم مدمّرة لعافية أي ثورة كفيلة بأن تحيل نيران الثورات مع مرور الوقت إلى رماد بارد.

التغييرات الجذرية في العلاقات المجتمعية العربية والبناء التأصيلي لقيم جديدة في عقول وقلوب مواطني تلك المجتمعات هما مهمّتا المرحلة الثورية التي تعيشها أمة العرب حالياً، مهمتان يجب أن يقوم بهمام مفكِّرو الأمة في الحال إذا أريد لهذه الثورات الكبرى أن تمتدَّ في الأفق البعيد.

ثانياً: على المستوى القطري الوطني سيسجِّل كوصمة عار لو أن مختلف قوى الثورة لم تتغلَّب على خلافاتها المؤقتة الهامشية في الحاضر وذلك من أجل ضمان سلامة ومستقبل الثورات في هذا القطر أو ذاك. في الماضي تفتَّتت أحزاب وحركات سياسية عربية واحدة بسبب خلافات بليدة انتهازية عابرة. وكانت النتيجة الكارثة القومية التي حلَّت بالأمة عبر الأربعين سنة الماضية. فهل سيسمح شباب الثورات لأنفسهم ارتكاب أخطاء مماثلة تؤدي إلى ضعف وسقم الثورات أم سيتعلمون الدَّرس ممَّن سبقهم ويتحاشون مثل تلك الكارثة التي فجّروا ثوراتهم في الأصل من أجل الخروج منها؟ توحيد صفوف قوى الثورة في كل قطر لتقف أمام وحدة صفوف القوى المضادة لها هي مهمّة مستعجلة، وهي من مسئوليات شباب الثورات بلا منازع.

ثالثا: بناء فيدرالية تنسيقية تعاضدية على المستوى القومي بين قوى الثورات الوطنية لم يعد ترفاً يمكن تأجيله. إن القوى المضادة للربيع العربي على المستوى الخارجي الإمبريالي وعلى المستوى الداخلي الفاسد الفئوي تنظّم صفوفها أكثر فأكثر، وهي على الأقل تريد احتواء الثورات وحرفها عن مسارها التغييري الجذري لتسير في طريق الإصلاحات الشكلية المؤقتة. ولن تقف أمام تلك القوى بقوّة وثبات سوى نوع من الفيدرالية الثورية على المستوى القومي العروبي. هذه أيضاً من مسئوليات شباب الثورات في الأساس.

الحاضر والمستقبل القريب يحتاجان لتلك الإنجازات الثلاث كأولويات قصوى في أجندة الثورات، خصوصاً الناجحة منها، وإنجازها في الواقع لن يخدم فقط الثورات التي نجحت، وإنما أيضاً سيجعل إمكانات نجاح الثورات القادمة أكبر وأقوى.

لقد مرّ عام على الربيع العربي المبهر. مطلوب أن يبقى ذلك الربيع مزهراً عطراً لسنين طويلة قادمة، لكن ذلك سيحتاج لبيئة صالحة وإلى تغذية مستمرة

إقرأ أيضا لـ "علي محمد فخرو"

العدد 3455 - الثلثاء 21 فبراير 2012م الموافق 29 ربيع الاول 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 9 | 5:13 م

      رب ارجعوني,,,,,,,,,,,,,,,,,

      لقد أتحفتنا بإطلالتك النيرة وكلماتك المبلسمة وبرؤيتك المتفائلة ونظرتك الثاقبة أيها الأستاذ والمربي الفاضل, فبكم وبفكركم تستقي الشعوب عزتها وكرامتها, فأنتم وقود ثورتها ومصباح دربها ومحور استقامتها, ,, فلا تقطعوا المدد عنها

    • زائر 8 | 10:21 ص

      ابونا ودكتورنا

      لاازال اذكر عندما كنت بالمدرسة وكنا نقول دكتور علي فخرو وزير التربية والتعليم كنا نعيش حياة رائعة بالمدارس وعندما تم ذهابك للخارج كسفير فقدت البحرين وزير واب رائع
      والان انا متخرجة واقول للطلبة افتقدتم اب ووزير تربية مميز بعصره وبتطور التعليم بالبحرين
      وكلماتك عن الربيع العربي كالزهور اليانعة التي نتمنى ان تسقى جيدا لترتوي وتينع لاان تموت
      انقذو البحرين وشباب هذا الوطن من الفتن

    • زائر 7 | 3:56 ص

      الى اين سياسة التمييع والابتلاع

      ما يلاحظ في ساحات البلدان التى أصابها الربيع العربي وتفجرت بها الثورات نجدها مازالت بيد الانظمة الفاسدة تقضم فيها وتحاول جاهدة بالتعاون الصهيونية الامريكية ان تبتلع الثورة وصرفها عن مسارها كما نلاحظ في مصر لم تخطو للامام اية خطوة تصحيحية او رشيدة يستحسنها الشارع بل مازال الشعب المصري يشكوا التذمر بل لم يقدم للقصاص اي صنم من النظام السابق والملاحظ هو أبقاء المعهدات مع الصهاينة دون مساس . باختصار الثورة صارات مكانك سر. ومصر مازالت في حالة يقضة بعد الغيبوبة لكنها لن تدوم مالم تسعف بالوعي والفكر .

    • زائر 4 | 1:59 ص

      ايها المفكر

      الاوطان تكبر بكم وبامثالكم من الوطنيين الشرفاء

    • زائر 1 | 11:30 م

      بارك الله فيك يادكتور

      صباح الوعي والوطنيه يا دكتور . الربيع العربي يتغذى على ماعاشته الشعوب المظلومه المهضومه لعقود من عذابات نفسيه وجسديه وحرمان واذا شاع العدل وعم الخير على هذه الشعوب ستظل الثورات متقده بفضل ما تجتر شعوب الربيع العربي من ذكريات مؤلمه لاجيال قادمه الى ان تهضم عقول من الحكام مفاهيم حقوق الانسان الحقيقه ومبادى الشراكه في كل مفاصل الحياه ويقتسم الرئيس كسره الخبز مع الجياع من شعبه...ديهي حر

اقرأ ايضاً