العدد 3467 - الأحد 04 مارس 2012م الموافق 11 ربيع الثاني 1433هـ

الطفولة المهمَّشة: النظرية والتطبيق

بدأنا في الفصول السابقة دراسة «التطوُّر الثقافي» لثقافة إيذاء الأطفال أو قتلهم، وعرضنا البدايات الأولى لتلك الثقافة، ولكي نتمكن من شرح آليات انتقال هذه الثقافة من زمن إلى آخر عبر عدة أجيال يتوجب علينا أولاً إثبات وجود استمرارية لهذه الثقافة، فمن غير المعقول أن نشرح آليات انتقال لثقافة معينة عبر الأجيال دون وجود استمرارية لهذه الثقافة؛ فآليات الانتقال الثقافي تعلل سبب بقاء واستمرارية ثقافة ما. لقد سبق أن عرضنا في الفصول السابقة تحليلات لبعض الباحثين المتخصصين الذين استنتجوا وجود عمليات لقتل الرضَّع حديثي الولادة أو الأطفال وأنها منتشرة على نطاق واسع في العديد من الثقافات في حقبة قبل الميلاد وحتى نهاية القرون الوسطى. ولكن هناك خطورة في مثل هذا التصريح، فالثقافات المعنية بإيذاء الأطفال أو قتلهم هي ثقافات تتمسك بديانات وهي الديانات السماوية المسيحية واليهودية والإسلامية، أو تتمسك بفلسفات وجميعها تدين مثل هذه الأعمال. هناك مئات الكتب التي تتحدث عن حقوق المرأة وحقوق الطفولة وتدين انتهاك حقوقهم، وتلك الكتب لم تأت من فراغ؛ بل هي من صميم الدِّين. إلا أن من يرى وجود ثقافة إيذاء الأطفال أو قتلهم يرى أن مبادئ تلك الديانات ومثاليتها بقيت محفوظة كمبادئ مثالية ضمن الكتب، فهي أمور نظرية جاءت لتخرج الإنسانية من الظلمات إلى النور؛ إلا أن الإنسان أبى إلا أن يبقى في الظلام، فتلك النظريات المثالية لم تلاقِ من يطبقها إلا القليل، وهكذا نرى deMause في بحثه «Bipolar Christianity» يتحدث عن وجود مئات الكتب عن المسيحية في القرون الوسطى وجميعها لم تتطرق لوجود تلك الممارسات ضد الطفولة وخصوصاً الإناث منهم ويعلل ذلك بأن كتاب تلك الكتب رجال في المقام الأول، وفي المقام الثاني فأغلبيتهم يؤمنون بمثالية الديانة المسيحية (deMause 2010 ،pp. 175 - 176). طبعاً، الحديث هنا عن ممارسات أشخاص وليس عن تعاليم ديانات، وسنرى لاحقاً وجود عمليات إيذاء وقتل للأطفال في ظل الديانة الإسلامية أيضاً، وكذلك في ظل الفلسفة البوذية، لا يوجد دين معين أو فلسفة معينة تنتمي لها ثقافة إيذاء الأطفال فهي ثقافة عالمية ممكن لأي جماعة أن تتبناها وتبرر وجودها.

في هذا الفصل سنحاول إلقاء الضوء على النظريات المتصارعة حول تحليل الحقائق الموثقة التي تشير إلى إهمال الأطفال أو إيذائهم أو تركهم أو التخلص منهم بصورة أو بأخرى. طبعاً، المجتمع الإسلامي ليس استثناء فقد تفشت فيه تلك الممارسات وإن وثقت بصورة رديئة عبر التاريخ إلا أنها موجودة ولها آثار مازالت باقية. ولكن قبل الحديث عن المجتمع الإسلامي سسنلط الضوء على المجتمعات الأخرى، وسنلاحظ بعدها التشابه الكبير في عمليات الإنكار والتبرير.

الإنكار في قبال الاستنكار

تناولنا في الفصل السابق تاريخ قتل الإناث حديثي الولادة في الصين بصورة مختصرة، وقد استنكر المجتمع المسيحي عمليات قتل الأنثى المستمرة عبر التاريخ وصورها بالعمليات الوحشية والمرعبة، هذا التصوير المرعب أدى إلى ظهور جماعات عديدة تنكر وجود عمليات قتل الأنثى في الصين (Mungello 2008، p. 63)، ويبدو أن أعداد هؤلاء المنكرين كبيرة بحيث أصبح وجودهم يمثل ظاهرة، وقد خصص Mungello في الفصل الرابع من كتابه Drowning Girls in China لمناقشة ذلك. المنكرون يرون أن الفلسفة الأخلاقية السائدة في الصين تمنع قتل الأطفال حديثي الولادة، في الواقع، الفلسفة البوذية فقط هي التي تساوي بين المولود والبالغ، إلا أن هناك تعاليم أخرى وهي الطاوية Daoism التي تفرق بين قتل المولود الحديث وقتل الشخص البالغ، ففي نظر الطاويين أن المولود الحديث لم يتطور بعد ليصبح إنساناً كاملاً (Mungello 200، p. 63). والمؤمنون بالفلسفة البوذية يرون أن من يقتل مولوداً جديداً فستطارده «الكارما» أو «العاقبة الأخلاقية»، وقد أعاد Mungello نشر العديد من الرسومات التي تصور القصص الشعبية عن قتل المواليد الإناث المنتشرة في الصين، وهي تصور عقاب من يقتل الأنثى حديثة الولادة وثواب من أنقذ أنثى من القتل.

تبرئة الحضارة اليونانية

انتشرت في الحضارة اليونانية عملية قتل الأطفال أو تركهم في العراء ليلاقوا مصيرهم أو ما أصطلح عليها مسمى exposure وهي عملية بشعة ووحشية وهناك كم ضخم من الأدلة التي تثبت وجودها منذ نشأة الحضارة اليونانية واستمرت ردحاً طويلاً من الزمن، وقد ورث عنهم الرومان هذه العادة، ثم انتشرت في العديد من مناطق أوربا، واستمرت هذه العملية حتى القرون الوسطى وما بعدها، إلا أن الفارق في العصور اللاحقة هو تخصيص ملاجئ وكنائس تحتضن هذه الأطفال، وانتشرت هذه العادة حتى في المجتمع العربي سواء قبل الإسلام أو بعده كما سنرى لاحقاً. وبسبب وصف هذه العملية بالعملية الوحشية من قبل كتاب التاريخ، ظهرت هنا أيضاً جماعة «المنكرين» الذين أرادوا تحسين صورة اليونان؛ إذ أكد البعض أن هذا التقليد لم يعد معروفاً في القرن الخامس الميلادي (Cameron 1932)، ويرى Cameron في بحثه «The Exposure of Children and Greek Ethics» أن هذا التقليد يجب أن يعالج بعقلانية بعيداً عن المنكرين وبعيداً عن المصورين لبشاعة هذا التقليد وذلك بتناول عملية التخلي عن الطفل من منطلقين أساسيين، الأول، كون عملية التخلي عن الأطفال نوع من أنواع عمليات تحديد أعداد أفراد الأسرة التي كانت تعيش تحت ظروف لا تطاق، والثاني كونها ليست عملية وحشية بتلك الدرجة المصورة فهي ذات وحشية منخفضة (Cameron 1932). الوضع ذاته في المؤلفات العربية التي تناقش أحكام اللقيط أو «الطفل المنبوذ» لكنها لا تناقش عملية النبذ نفسها كونها نوعاً من أنواع قتل الأطفال أو التخلص منهم.

ثقافة اللامبالاة بالأطفال

في العصور القديمة كانت الظروف الصحية والاجتماعية والاقتصادية مختلفة عما هي في الحاضر وكان الأطفال عموماً الأقل حظاً في النجاة؛ فقد كان معدَّل موتهم مرتفعاً. ويذكر الطبيب الاسكتلندي Bernard of Gordon في كتابه الصادر العام 1309م أن العديد من الأطفال يموتون بسبب الحمى المصاحبة لعملية ظهور الأسنان، وعموماً، فإن الأسباب الأساسية التي تؤدي إلى موت الأطفال في المناطق النامية في الوقت الراهن كانت منتشرة في تلك الحقبة بصورة أكبر بالإضافة إلى انتشار مرض الطاعون منذ القرن الرابع عشر (Giladi 1990). كل تلك الظروف جعلت من معدّل موت الأطفال يتضاعف بصورة ملحوظة. هذه الحقائق تشير إلى وجود قاتل حقيقي للأطفال في العصور الوسطى، فهل كانت توجد ضرورة لإهمال الأطفال أو تركهم أو قتلهم؟، وهنا يأتي دور الاجتهاد والتنظير والتبرير، والإنكار ... إلخ، ومن بين الفرضيات التي لاقت رواجاً واسعاً هي فرضية الكاتب الفرنسي Philippe Ariesوالذي نشرها ضمن كتابه «L’enfant et la vie familiale sous l’Ancien Régime» في العام 1960م، والذي ترجم إلى الإنجليزية تحت عنوان «Centuries of Childhood»؛ إذ قدَّم Aries في هذا الكتاب أطروحة مفادها أن شعوب القرون الوسطى وبسبب ارتفاع معدّل وفيات الأطفال أصبحوا أقل تأثراً بموت الأطفال حتى أصبحوا لا يبالوا بموتهم؛ ما أدى إلى إهمال الآباء لأبنائهم وعدم الاكتراث لموتهم. وقد وافقه على هذه الفرضية عدد من الكتاب من مثل Edward Shorter في كتابه «The making of the modern family» الذي صدر العام 1977م، والذي ذهب فيه لأبعد من Aries؛ إذ صرح أن الأم في الماضي «لا تهتم»، أما Elisabeth Badinter في كتابها «The Myth of Motherhood» فترى أن الأمهات الفرنسيات قبل العام 1760م كن يعتبرن الأطفال مجرد مصدر إزعاج وسوء طالع (Tucker 1993). إلا أن هناك من انتقد فرضية Aries بشدة؛ بل إنه تم انتقاد منهجيته في البحث أيضاً وإنه قد أخطأ في عملية تحليل النمط السلوكي الملحوظ لشعوب القرون الوسطى كعدم ذهاب الأب إلى جنازة ابنه والتي يمكن أن تفسر بسبب حالة الحزن الشديد لا حالة عدم مبالاة (Wilson 1980). ويرى Wilson أن حتى سبب التخلي عن الأطفال أو قتلهم هو نتيجة لظروف الفقر القاسية التي تعيشها الأسرة أو بسبب الحفاظ على الشرف، وإنه لا يمكن الأخذ بهذه الأمور كدليل على علاقات الأمهات بأطفالهن (Giladi 1990).

الخلاصة، إنه مهما تعددت النظريات والتبريرات تبقى هناك حقيقة واحدة وهي استمرار عمليات إيذاء الأطفال وقتلهم منذ الحضارة اليونانية وحتى القرون الوسطى

العدد 3467 - الأحد 04 مارس 2012م الموافق 11 ربيع الثاني 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً