العدد 3474 - الأحد 11 مارس 2012م الموافق 18 ربيع الثاني 1433هـ

الراحل أحمد راشد ثاني والدرهم المفقود

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

عرفت أحمد راشد ثاني في العام 1983. عرفته أكثر في عرض لإحدى مسرحياته في جامعة الإمارات بمدينة العين. وعرفته أكثر عمقاً من مقال تحدث فيه عن الدرهم الناقص في جيبه بعد انتظار سائق التاكسي الآسيوي في طريقه إلى محاضرة صباحية تأخر في حضورها كعادته. تفاصيل لا حرج في الوقوف عليها، في دول غير نفطية أو دول عظمى في إنجازها فاحشة الثراء والإهمال لمهمشيها من الكبار المنسيين. لكن أن نقف عليها في دول نفطية تعاني من ندرة السكان تظل بين الغرابة أو الغصة أو السفر في النص أو واقع قائم لا يمكن أن تغمض عيناً عليه.

في زمالة صحيفة «الخليج»، أيام كان الشاعر والكاتب المسرحي السوري محمد الماغوط رئيساً للقسم الثقافي وكان يبث رعبه وإهاناته بسبب أو من دون سبب لكتّاب إماراتيين خصوصاً، كان أحمد راشد ثاني أكثر قدرة على التسلّح أو التحايل على ذلك الرعب وتجنّبه، سهراً على نصه لغة ومعنى وقيمة يذهب مخفوراً بتجليات قراءات لم نع لها إلا بعد شهور وربما سنوات. كان الوحيد بيننا الذي يقرأ بلغة واحدة من معاصريه ومجايليه - ضمن عدد من الشلة المقربة - الانجليزية كانت عقدته استعاض عنها بحرق الزمن والتهام الكتب بقراءات مترجمة وإن كانت رديئة في كثير من الأحيان في توصيل قيمتها لكنه كان يعمل على تصفية رداءتها بقدرته على الإضافة إليها حين يحضر درس السرد. سرد القراءات ومراجعتها.

ربما كان الصديق النبيل عبدالعزيز جاسم أكثرنا ملاصقة وحضوراً وتفقداً وتتبّعاً له في السفر والحضر وحتى في الأماكن الخاصة والمغلقة. حضرت بعضها لكنّ بُعْد المسافة بين أبوظبي حيث يقيم وحيث يعمل هو رئيساً لقسم المسرح في المجمّع الثقافي وبين مدينة العين حيث العزلة بامتياز وترصّد ومراقبة للعالم من وراء كثبان الروح قبل أن تكون كثبان رمل... كل ذلك لم يحل دون تواصل وفّرته تقنيات كانت بدائية بمقياس الزمن حينها. وهو تواصل لم يتعد الاطمئنان على صعلكته وذهابه في النص حدّ التوحّد معه وحدّ تحوّله إلى عالم وحيد وقائم ولا شيء قبله أو بعده. وأحياناً يحدث التواصل للاطمئنان على سفري الدائم في جهات الله سياحة أو عملاً أو نشاطاً مرتبطاً بالكتابة/ النص عبر مؤتمرات أو ندوات أو احتفاء بكتاب أو نص.

أعود إلى الماغوط. من بين الذين لم تمسسْهم إهاناته، يظل أحمد راشد ثاني. أنا أحد الذين مسّتهم إهانات الماغوط في العمق والصميم مع إصدار العدد الثالث من ملحق الخليج الثقافي وكان بحجم التابلويد، ويصدر كل يوم اثنين. كان ثاني محصّناً بغريزة الامتلاء والاستواء في النص. لا نص يمكن أن يرى الشمس بالنسبة إلى ثاني من دون أن يعرضه على هوسه بالدقة. وهو الذي كان يردد دائماً: اللغة هي الدقة.

لم يك عابراً في الحياة. كان مقيماً ومؤثراً وفاعلاً ومحرّضاً ومستفزاً ورائياً وحالماً ومتنبئاً ومتناقضاً. كان كل ذلك في وعي وإدراك وانتباهة نادرة لن تجد ما يشبهها لدى مجايليه.

كان يتأمل تفاصيلها كما يتأمل ملامح أبنائه. لم تكن الحياة ابنته فحسب كانت ابنته التي يريد لها أن تكون قادرة ومؤهلة لأن تربّيه وتأخذ بيده إلى المفترقات الصعبة. وكانت حياته كلها صعبة المفترقات وأول اختبارها لروحه وقيمته وقدرته على الإضافة إلى الحياة.

المؤتمر الوحيد الذي جمعني به طوال علاقتنا الممتدة من منتصف ثمانينيات القرن الماضي حتى رحيله المبكّر، كان في العاصمة السعودية (الرياض) في مهرجان الشعر الأول لدول الخليج العربية بفندق قصر الرياض، من خلال وفد دولة الإمارات العربية المتحدة الذي ضم الراحل إلى جانب الشاعر جابر المنصوري وكاتب هذه السطور. ملازمة الشاعر والصديق السعودي عبدالله الصيخان لنا جعل منه رابع أعضاء الوفد.

كان ثاني نكهة المكان وجلسات ما قبل الفعاليات في بهو الفندق بضحكته المجلجلة التي لا تعير اهتماماً - ساعة يحين وقتها العفوي - لأي بروتوكول أو خصوصية في المكان. في كثير من فعله ومواقفه كنت أظنه القاطن الوحيد في هذا الكوكب. رحل محمّلاً بأحلام وأوهام أيضاً. رحل بضحكته المجلجلة الساخرة الساخطة المرّة أحياناً؛ لكنها لم تغادرنا تماماً كما لم تغادرنا روحه.

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 3474 - الأحد 11 مارس 2012م الموافق 18 ربيع الثاني 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 2 | 12:32 م

      وقفة تسكن الروح

      غريب مايحدث حينما يجبرنا الألم على التحدث عن عزيز رحل، تتحول الكلمة إلى مساحات ومواقف تختصر السنوات، تتحول الذكرى عباءة تستحضر كل ألالوان التي لا تنطق إلا على اللون الأسود فتنبعث منها رائحة الحياة غريب هذا الألم نحن نكتب عمن رحلوا عنا كم يؤلم روحنا غيابهم كم تؤنسنا الكتابة عنهم لحد الابتسام.  أستاذي دعني أقول لك بالقليل أعرفك لكنك استطعت ان تجعلني أعرف الراحل أحمد ثاني - تحياتي

    • زائر 1 | 2:55 ص

      تحياتي للكاتب

      حبذا من الكاتب العزيز ان يطلعنا على تجربته مع الماغوط كي يستفيد منها الاخرون لان الماغوط عملاق في سماء الثقافه العربيه حتى لو كان فظا في تعامله مع الاخرين

اقرأ ايضاً