العدد 3498 - الأربعاء 04 أبريل 2012م الموافق 13 جمادى الأولى 1433هـ

في المَضارب الحديثة وأصحاب الغارات الجُدُد

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

شنّ غارة عليهم: هاجمهم، صبحناهم غارة: سقيناهم خيلاً مغيرة، غارة شعواء: متفرِّقة. «شن الغارة»: فرّق الخيل ثم صبّها من الجهات الأربع على العدو. استأنس بالشاهد اللغوي والعودة إلى جذره، وخصوصاً مع تجدّد ممارسات لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تكون منتسبة إلى هذا العصر بكل تحولاته الفارقة والعميقة والجذرية؛ إن على مستوى السلوك أم على مستوى المكتسبات التي روّضت من السلوك الشرس للإنسان، بإخراجه من كون ومحيطات من الفرقة والتشرذم والتوحش على مساحات الألفة وتكوين المجتمع الإنساني.

في القرن الحادي والعشرين، أكتب. لا أكتب من مكمن في أحد مضارب قبائل بني عبس أو غيرها من القبائل. أكتب من مقهى كوستا. بالطبع لا مقهى كهذا يومها. كل الصحراء فيها مقاهٍ من نوع آخر، كما فيها دخان هو بمثابة لوحات إرشادية لمن ضل أو تاه أو أنهكه الجوع أو طلب لجوءاً.

على رغم حال التخلف، وشح الموارد، والتشرذم الذي عاشته البيئات العربية في طورها الأول، إلا أن الغارات حتى في وعي البيئات المستقرة المتاخمة لتلك البيئات أو القريبة منها، كانت مرفوضة ومذمومة وتشكل تهديداً للمنجز البسيط في البيئات المستقرة، وعلى أقل تقدير يشكل تهديداً لأكبر قيمة وإنجاز أتيح لها وتكوّن: الاستقرار.

كان الغزو هو الشرعة والمنهاج الذي يحكم، والغارات هي واقع البشر وقتها. كانت الغارات هي القاعدة والحلف هو الشذوذ. الأحلاف النادرة وجدت من دون أن يعني ذلك انتهاء أو توقف الغارات. كان الحلف يتم بين كيانين وأكثر على حساب كيانات أخرى متنافرة معها. وحتى الحلف على ندرته كان يتيح للقبائل فسحة ومجالاً وفرصاً للملمة شعثها وترتيب صفوفها وشئونها.

يراد لنا اليوم في القرن الحادي والعشرين، أن نتقبَّل مثل تلك الغارات في البيئات التي لا يراد لها أي استقرار، ويراد لها أن تنشغل في حال الاحتراب. وأي احتراب؟ احتراب مفروض ومصطنع ومخلّق. وتذهب الفرْجة على مثل تلك الغارات المتكررة حد الوهم بتوفير استقرار لمن افتعلها؛ لكن ما تتجاهله أو تتعمد تجاهله أطراف الفرْجة، ومن بيده وضع حد لها، أن مثل ذلك المساس بالاستقرار، وشن الغارات المتكررة والسطو الذي لا يجد من يردعه ويضع له حدّاً، في مثل هذه الظروف الاستثنائية؛ أو يراد لها أن تكون استثنائية - لا أدري إلى متى يراد لها ذلك - سيكون حالاً عادية ومتكررة في حال تم وضع للحال الاستثنائية تلك؛ إذ لن يجد أصحاب الغارات الجُدد في القرن الحادي والعشرين طريقة أسهل وأسرع للإثراء والعيش على حساب الآخرين بسرقة جهدهم وعرقهم وهم من وراء لثام، من اتخاذ هذه المهنة (الغارات) عنوان وجود وحياة، وليس مستبعداً أن يصبحوا مع مرور الوقت من وجوه المجتمعات! هذا الأمر على المدى الطويل سيطول كل ما يمكن أن تمتد إليه أيدي أصحاب الغارات الجدد. لن يكون لدى أولئك – لا الوقت ولا الضمير أساساً - بعد المرحلة والحال الاستثنائية، لفرز أو انتخاب أهدافهم طالما أنها أصبحت مصدر رزق وحياة، بغضّ النظر عن حليّّة وشرعية تلك الحياة.

الذين يستسيغون مثل تلك الأساليب التي لا تنتمي إلى التحضر في شيء ولا تنتمي إلى القيمة والإنسان في شيء، وبوجود ما يشبه غض الطرْف عنهم، إنما يكرّس عالم غاب جديداً. يكرس حالاً من الارتداد إلى البيئة الأولى، بيئة التوحش وبيئة الغارات وبيئة ما قبل تشكّل وتكوين المجتمع الإنساني.

بالأمس البعيد - وأعود إليه - كانت سرقة ناقة أو خيل تضع أطرافاً في حال استنفار، وتأخذ الليل ستاراً لرد الصاع صاعين لرد الاعتبار. وعلى رغم ذلك كان التخلف ذاك محكوماً بآداب وإن بدت غير ذات نفع وجدوى في كثير من الأحيان إلا أنه كان معمولاً بها. أما أصحاب الغارات الجدُد فهم مجموعة لصوص يظلون مطرودين من كل البيئات والمجتمعات التي عرفها التاريخ الإنساني. أصحاب الغارات يتخذون الليل نفسه ستاراً للإغارة وهُم في مأمنين وهْم أمانهم وهُم مدججون بسلاح يفضي بهم إلى السطو والترويع والتخريب (لا أدري هل نحن في اليمن أم لوس إنجيليس حيث يباع السلاح كما تباع المشروبات الغازية؟) ومأمن عدم المساءلة والردع من قبل الجهات المسئولة.

في مقهى كوستا بشارع البديع، على أقل تقدير أنا ومجموعة من الأصدقاء الذين يرتادونه، نظل مطمئنين أن لا أحد ممن يتردد على المكان يحمل عضوية نادي أصحاب الغارات الجُدُد. نرتشف قهوتنا ونحن في اطمئنان بأن مضاربنا لن تتعرض إلى غارة! وذلك في واقع الأمر له جانب آخر من المأساة والخلل، خلل أن الوطن تحول كانتونات!

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 3498 - الأربعاء 04 أبريل 2012م الموافق 13 جمادى الأولى 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 3 | 3:46 ص

      لقد أوذوا فينا ولم

      قليلون هم الذين تحرروا من الجاهلية الأولى في الدنيا ، هم فقط الذين لا يردون الجاهلية بأخرى ، هم من يعقلون أن حرب البسوس لا مكان لها بينهم ، رغم الجراح .. رغم كل شيئ . 

    • زائر 2 | 2:55 ص

      غارات يا شقيق

      لطالما كنا نتغننى بأننا الشعب المثقف ولكن بعد مزج البيئة بالشتات المستورد أصبحنا في وضع لا يحسدنا عليه أحد والبقية تأتي - هناك خبر عن ضيوف جدد من السو ... سيستقبلهم الأخوة بصدر رحب لينضموا الى قافلة المغيرين .. شئنا أم ابينا لابد لنا من مقاومة الغارات بعد أن تشكلت كل الكانتونات لتعمل بالظاهر بعد أن كانت تعمل بالخفاء.

      ولا عزاء لمن غير عليه

      شكرا شقيق

    • زائر 1 | 2:12 ص

      الحمد لله لقد رجعنا الى العصور الوسطى

      كل ما تقدمت الامم خطوات تراجعنا خطوات فاصبحنا والحمد لله في عصور السطو والسلب والنهب ولا يوجد في القاموس كلمات حرام حلال مكروه زقوم لا لا لا
      بل كل ما نملكه هو حلال زلال غنيمة نعم هكذب يتعامل البعض معنا وسأقولها بدون خجل اصبحت امولا ووظائفنا وكل ما يمت لنا اصبحت نهبا.
      نقول كل اناء بالذي فيه ينضح وكل يعمل باصله
      وحتى يكون التاريخ صحيحا لا بد ان يكون ما حصل قد حصل

اقرأ ايضاً