العدد 3531 - الإثنين 07 مايو 2012م الموافق 16 جمادى الآخرة 1433هـ

عظة التاريخ... وتحديات التغيير

وسام السبع wesam.alsebea [at] alwasatnews.com

يكتب المؤرخ العالمي ديورانت في كتابه (دروس التاريخ) أن للتاريخ دروسا أولها أن الحياة منافسة عامة بين الأفراد ثم بين الجماعات والدول. وثاني الدروس أن الحياة عملية انتخاب واختيار، وثالثها ان الحياة يجب أن تتوالد وتتكاثر بالانجاب.

ويخلص الفيلسوف الاميركي الذي اشتهر بكتابه المدهش (قصة الحضارة) والذي شاركته زوجته في تأليفه الى أن الحضارة عملية تاريخية منفتحة للابداع تظهر في مكان وزمان معينين، حتى اذا اكتملت دورتها ودب فيها الوهن انتقلت الى مكان آخر في زمان آخر وهكذا دون توقف. فقصتها مستمرة رغم الانقطاع العابر.

الحضارة - كما يرى ديورانت – ليست كائناً أبدياً فهي تولد وتتطور ثم تتحلل وتموت ولكن حين «تسقط حضارة أو جماعة فما ذلك الا لفشل زعمائها السياسيين في مواجهة تحديات التغيير». مقاومة التغيير إذاً أحد الاسباب الكفيلة بانتهاء المجتمع وتعطيل قدراته، فالوقوف أمام عجلة الزمن بمثابة مناطحة فجّة لسنن الكون والحياة.

أتذكر أن أشهر العقول الادارية الاميركية جاك ويلش الذي اقترن اسمه بالتجربة الناجحة لشركة جنرال إلكتريك وكان له الفضل في تحويل جنرال إلكتريك من شركة مصنعة فتية إلى شركة عملاقة للخدمات والمنتجات الثقيلة اذ تمكن من زيادة قيمة الشركة بمقدار ثلاثين ضعفاً، وكان من أكثر مقومات نجاحه بروزاً انتقاؤه وتطويره المستمر للقادة. وفق ما أطلق عليه فيما بعد نموذج 4E للقيادة الناجحة. وكان من أشهر ما كان يردده ويلش في محاضراته عن صيغة القيادة الناجحة هو مبدأ «وضع الرجل المناسب في المكان المناسب»، وعدم السماح له في البقاء بمنصبه لمدة تزيد على 5 سنوات، فهو إما شخص كفوء يستحق ترقية وظيفية، أو موظف كسول وخامل لا يستحق موقعه، بالتالي يتعين البحث عن مكان آخر يناسب قدراته».

الاستجابة لضرورات التغيير هو الضمانة اللازمة لحيوية الامم والشعوب، والتاريخ، كما يقول ماركس، «هو الاقتصاد أثناء نشاطه وعمله»، والتفسير الاقتصادي للتاريخ - بالمناسبة - ليس غبياً ولكن ماركس بخس الدور الذي تؤديه الحوافز غير الاقتصادية في سلوك الجماهير مثل الحمية الدينية والحماسة الوطنية.

يروي لنا التاريخ أنه ومع بداية تأسيس الدولة العباسية استشرى جو التجسس (الوشاية) وقتل الناس على الشبهة بالزندقة بسبب عداوة شخصية كان أمراً يوميا، كان من أهم ضحاياه عقلية فذة بوزن ابن المقفع (ت 759م)، فابن المقفع الذي اشتهر بكتابه (كليلة ودمنة) الذي جمع ثقافات عدة وكتبه بلغة الطيور وحيوانات الغابة محملاً مضامين سياسية ولم يشتهر بكتابه الاخر (رسالة الصحابة) ويجمعهما هدف واحد هو مسئولية المثقف في نقد الاوضاع، أن الكتاب الثاني لا يقصد به صحابة الرسول (ص) بل بطانة الحاكم قدمه الى المنصور العباسي بكثير من المدح والحذر يطرح عليه خطة إصلاحية متكاملة أمام الفساد العام ناقش فيها أخطر أربع مسائل: المؤسسة العسكرية (الجند)، وفوضى القضاء، وفساد البطانة، والاصلاح الزراعي (الخرج)، والحمد لله ان هذه المشاكل قد تمت تسويتها بالكامل ولا نعاني منها ابدا.

لكن ابن المقفع كان مصيره القتل بطريقة فظيعة، وهو دون الأربعين من عمره، في مشهد حزين وبائس مازال حتى اليوم يلون سياستنا، فالأدمغة الناضجة والعقول المفكرة في بلادنا يجري - عوض الاستفادة منها - شراء ذممها وإبطال مفعول ضمائرها، ومراكز الابحاث في بلادنا تغلق وتعطل بحجة شح الموازنة لصالح موازنات الأمن الداخلي والتحديات الخارجية على طريقة «اصقل سيفك ياعباس».

ومن المفيد التشبع بالوعي التاريخي و تصور الجو الذي عاش فيه الناس قديماً، فوضعنا المأساوي الحالي لم يولد من لاشيء. وبكثير من الاسى يجب أن نذعن الى حقيقة اننا مازلنا نرضع من الثقافة العباسية نفسها بفارق ألف سنة.

يربط الفيلسوف (برتراند راسل) بين قيام النهضة العقلية في أوروبا وحفنة من الادمغة المتميزة، ويقول لو تم اغتيال أصحابها لما كانت نهضة، وأسلوب تعاطي بعض الأنظمة مع أصحاب الرأي الحر والبصيرة النافذة لا تبتعد كثيراً عن معنى الاغتيال والتصفية على أي حال.

يقول أستاذ التاريخ بجامعة القاهرة حسين مؤنس «ان العربي كان اقل الناس اعتباراً بالتاريخ، انه يقرأ التاريخ ليلتمس الحكمة فينسى التاريخ والحكمة معاً، ومعاوية بن أبي سفيان كان يقرأ تاريخ الفرس، ولكن ما من خطأ وقع فيه الأكاسرة إلا وقع هو فيه. وهارون الرشيد قرأ تاريخ الامويين ولم يعجبه أن عبدالملك بن مروان أوصى لأولاده الأربعة بالخلافة من بعده، ومع ذلك فهو نفسه اوصى لاولاده الثلاثة على الترتيب فكانت حرب الأمين والمأمون، وقتل الثاني الأول، وتضعضع ملك بني العباس فأين الاعتبار من التاريخ؟».

وعلى رغم أن «الذين لا يستطيعون تذكر التاريخ محكوم عليهم بأن يكرروه»، فإن المعضلة أن ما ينقصنا ليس المعرفة بالتاريخ، ولا بأبرز النظريات الحديثة في الادارة والحكم ولكن ينقصنا عزم الاخذ بدروسها وعبرها، أوَلم يقل ديورانت «ان الحياة عملية انتخاب واختيار»؟ إنها حتماً عملية اختيار وانتخاب تقوم بها الشعوب والشعوب وحدها.

إقرأ أيضا لـ "وسام السبع"

العدد 3531 - الإثنين 07 مايو 2012م الموافق 16 جمادى الآخرة 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 4 | 1:44 ص

      ما أكثر العبَر وأقل الإعتبار

      أحسنت فيما تفضلت، وأضيف أنهم نسوا قوله تعالى"أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ "

    • زائر 2 | 12:31 ص

      عسى اللي باعدكم

      اهلا بعودتكم اخي وسام وعودة الأخت ريم وكم ننتظر عودة الأخ عقيل ميرزا والأخت ندى الوادي والأخ سعيد محمد والأخ حيد محمد والأخت أماني المسقطي وكل الأقلام الحلوة اللي في الوسط عسى اللي باعدكم ان شاالله تبتعد عنه العافية وتبتعد عنه الجنة والله كريم

    • زائر 1 | 11:47 م

      اسمهان

      كانت تغنى اسمهان: إمتى ح تعرف إمتى؟ دخل المشاغب على الخط فائلا: الكلام لك يا جارة؟ سأل يوسف وهبى: بتقول آيه؟ رد: عم بكلم نفسى.

اقرأ ايضاً