العدد 3533 - الأربعاء 09 مايو 2012م الموافق 18 جمادى الآخرة 1433هـ

العبث في السياسة

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

في العبث يُقيم معظم العالم اليوم، وخصوصاً العالم الذي توهّم أنه وصل إلى الحدّ الأقصى من مُنجزه المديني لا الحضاري، وهناك فرق بين ظاهر التحضّر عبر وسائل الرفاهية ووسائل الوصول إلى المعلومة وموازنات ضخمة للبحوث والتقصي العلمي وبين النقيض منها في إرباك وخلخلة استقرار العالم. لا تحضّر يُمكن أن يتواءم مع هذا الخروج السافر على حق الإنسان في الاختيار والعيش بعيداً عن الهيمنة والتهديد أو التلويح بكل مفارز وشواهد القوة. لا حضارة ولا تحضّر في كل ذلك.

في العبث توعّك العالم. لا شيء، لا مخلوق يمكن أن يستقيم وجوده مع العبث. العبث خلاف المغزى والمرام الذي وُجد من أجله هذا الكون. العبث خنق لكل قيمة، ومصادرة لكل معنى، واختطاف لكل قيمة.

عبث يأخذ بيد هذا العالم إلى محارق مُعدّة له من دون كُلف سوى كُلف الجنون. لا أحد يُحاسَب على جنون يصحو عليه بعد عربدة معنى وبعد تخبّط يطول حتى حق الناس في التنفّس والبحث عن ملاذ لا خيار لهم فيه؛ ولو كان في الجحيم؛ بشرط أن يكون جحيماً يختارونه بمحض مراراتهم لا بمحض وهْم عسَل يُوزع في منافذ إعلام مصاب بأكثر من عجز؛ وخصوصاً عجز أن يكون محايداً وشريفاً وقادراً على النظر بعينين طبيعيتين لا بعين الهوَس والشكّ والريبة والتخوين ومشروعات إلقاء الناس في البحر أو شحنهم في ناقلات نفط إذا توافرت مساحة احتياط تلبّي التعجّل والتعجيل في هكذا عبث وفوضى.

في عبث الشرق لا جهات يمكن أن يتحرّاها ويتلمّسها حتى الذي هو في الذروة من يقظته وانتباهته. لا جهات يمكن التعويل عليها؛ وخصوصاً الشرق المنتهب الذي تم احتواؤه وفيه تُصادر خيارات الناس، وتصادر فيه قدرتهم على النهوض كما يجب. نهوض يتلمّس قيمتهم ونأيهم عن التشبّه بالأشياء ولو قليلاً في أبسط تقدير وافتراض أحياناً.

ما العبث أساساً في وهم المنظومات القائمة؟ أن تكون في ادّعاء النظام فيما هي ضالعة في النقيض منه. ضالعة في بدائية كل شيء ومنحى. لا شيء يدلّ على قدرة تلك المنظومات على لملمة فوضاها ولو في اليسير منها. لا شيء يدل على شجاعتها في الانتقال من الوهم إلى مواجهة الواقع وتراكم صنعه وإنجازه.

ما العبث؟ إنه الذهاب في الوقاحة بالتجرؤ على الحياة وإنسانها في الجانب المستقر أو ما يدل عليها. إنه فوضى تدّعى قدرتها على قيادة الحياة والأخذ بها إلى ما تراه الأفضل والأصلح لها؛ بغضّ النظر عن مآلات تلك الرؤية ومحصلاتها.

ما العبث؟ عمى يدّعي قدرته على الرؤية في ظلام مُقيم ومُستحكم. ما العبث؟ وهْم ضمان ألاّ يرتطم الخلق بالاشياء وهم في ليل اصطناعي يراد له أن يكون نهاراً آخر بفعل مكنة إعلام يُحيل القبور إلى أندية صحية، والرماد إلى أول الألوان وجنتها. وهْم أن يقود العالم وهو الضرير إلى أدق عناوين ومحطات بلوغها.

ما العبث؟ سوى هذا النقيض من الاستواء على أكثر من صعيد وشاهد؛ سوى هذا الأخذ القسري بعفوية الحياة والناس إلى زلزال يمسّ أرواحها وهدوءها وقابليتها لترصّد خلل يطل برأسه هنا أو هناك.

ما العبث؟ سوى محاولة سَوْق الناس سَوْقاً إلى حيث يريد لهم الآخرون أن يؤمنوا وينسجموا ويقبلوا بكل ما يُملى عليهم؛ وإن أدّى بهم ذلك إلى إفراغهم من كل قيمة، والزجّ بهم في العدم. ما العبث؟ أن تسرح وتمرح في الوقت والمكان وكأن لا أحد في الجوار. أن تمعن في غيّ تراه آخر ما تفتّق عنه ذهنك في التعاطي مع المخلوقات من حولك. ألاّ تكترث بالتاريخ، والمستقبل بالنسبة إليك صكّ ملْكية على بياض، وترى في استفزازك للخلق موقفاً شعرياً بامتياز!

ليس من باب التندّر الحديث بهكذا سوداوية حين نمعن النظر فيما حولنا. ما الذي تحتفظ به ذاكرتنا وحتى حدقات عيوننا في التفاصيل التي نكاد نحفظها عن ظهر قلب؟ محاولة إفراغ الأمكنة والأزمنة من الذين لا يشبهون جوقة ومحترفي العبث، ومحاولة إعادة الاعتبار لطاووس كل واحد منهم وإن تسيّد الرماد ألوانه.

يدرك الواحد منّا ألاّ طاقة له على وضع حدّ للإقامة المؤبّدة للعبث في حياتنا؛ وخصوصاً ذلك الذي يَرِد ممن يُفترض بهم أن يحاصروه ويحجّموه ويكونوا حرّاساً يَحُولُون دون عبوره في تفاصيل كل ذلك، ويأخذوا بيده إلى نفي يقيم فيه، بعيداً عن حياة وبشر لا يمكن لهم أن يحلموا بتحقيق إنجاز؛ فيما العبث يتحكّم بمصائرهم ويُسيّرهم من خلال جهاز تحكّم عن بُعد.

العبث في نهاية المطاف، سراب تحت أكثر من مسمّى؛ ما يعنينا منه، أنه خارج دائرة المعنى وخارج دائرة فعل يُحدِث أثره في الحياة من حولنا.

والعبث في السياسة، اختطاف صريح لمصائر الناس وما يرتبط بتلك المصائر.

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 3533 - الأربعاء 09 مايو 2012م الموافق 18 جمادى الآخرة 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 2 | 9:40 ص

      ANDA

      ما العبث؟ أن تسرح وتمرح في الوقت والمكان وكأن لا أحد في الجوار. أن تمعن في غيّ تراه آخر ما تفتّق عنه ذهنك في التعاطي مع المخلوقات من حولك. ألاّ تكترث بالتاريخ، والمستقبل بالنسبة إليك صكّ ملْكية على بياض، وترى في استفزازك للخلق موقفاً شعرياً بامتياز!
      مقال عميق ..وله أكثر من مغزى جذري يتأصل في أحداث واقع أليمنشهده و نلمسه اليوم .. نسأ الله السلامة والعافية
      شكرا للكاتب

اقرأ ايضاً