العدد 3554 - الأربعاء 30 مايو 2012م الموافق 09 رجب 1433هـ

حين تلتقي أدنى الأفكار وأحَطُّ الكلمات وأقذر التوصيفات

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

عندما تتحدث كثيرًا، فإنك تخطئ كثيرًا. لكن، هل هذا القول ينسحب على الكتابة أيضًا؟ بمعنى، هل عندما تكتب كثيرًا، تخطئ كثيرًا؟ باعتقادي، أن النتيجة هي ليست كذلك تمامًا. فما يفصل اللسان عن القلم، هو ما يفصل السَّمع عن البصر في مدى يقينيتهما تجاه الأفكار والأحداث. ومن المفارقة أن نلحظ، بأن حاسَّة السَّمع هي التي تتلقى ما ينفثه اللسان من فلتات، وأن حاسَّة البصر، هي مَنْ تتلقى ما يُكتَب بالقلم على الورق. وبما أن السمع والبصر، يختلفان في درجة اليقين والشك، والدراية والرواية، بتفوّق البصر على السمع، فإن اللسان والقلم، يختلفان في درجة اليقين أيضًا بتفوق الثاني على الأول، وبرجحانه في مسألة البيان والحجة والدليل والبرهان.

تذوَّقوا معي هذا القول للحسين بن علي بن أبي طالب (ع): صاحب الحاجة لم يُكَرِّم وجهَه عن سؤالك، فأكرِم وجهك عن رده. انظروا كم هذا القول جميلٌ جدًا، في سبكه ومعناه وإيجازه، وكم له من وقعٍ على النفس. والبداهة تقول، إن ذلك القول هو في أصله خارجٌ من لسانِ قائله، لكنه دُوِّن وحُفِظَ على قرطاس حتى وصَلَنا. والدَّارِج هو أن الكلمات عادة ما يتمُّ تذوقها بتكرار قراءتها، بل مازالت الأشياء المكتوبة، هي العُمدة في الاتفاقيات، بين الدول، وحتى الأفراد. بل كلّ الإرث الإنساني، من علوم وتاريخ، يتم التعامل معه من خلال وجوده ككلمات، لا على الأفواه.

ما أرمي أن أقوله هنا، هو أن القلم، والكلمة المكتوبة، هي أسمى ما يخرج عن الإنسان من تعبيرات، وبها يُساءل، وعلى وقعها يُقيَّم، وهي الأكثر يقيناً بمفاضلتها مع لَقْلَقَة اللسان. وعليه، وبما أنها كذلك، فكلما عبَثَ المرء بما يكتبه، عبر اختياره أدنى الأفكار وأوضعها، وركيك الكلمات وأحطَّها، وأقذر التوصيفات وأقبحها، أصبح مقامه بمقدار ما كَتَب. فهي أولاً، تظهِرُ مدى عُقَد النفس لديه. وثانيًا، هي تعطي الانطباع اللازم، بشأن ضحالة تفكير الفرد، وسوء خلقه. وهي أشياء كافية، لأن يُنظر له، على أنه على غير الجادة، ورديف للجهالة والضياع.

اليوم، ومع شديد الأسف، تتوالى الأفكار الدنيا، والكلمات الركيكة، والتوصيفات القذرة على قراطيس العديد من الصحف والمجلات وفي باقي التدوينات، لتشكل نكسة للفكر، وللقلم وللصحافة، ولأصحابها من أفراد وجماعات. لقد أصبح كل شيء لدى أولئك النفر، قابل للانحطاط، ولم يعد الوقت كافياًَ أمام هذا المشهد الكئيب، سوى للنظر إليه بمزيد من الشفقة والحزن، وفي أحيان أخرى الضحك والسُّخرية والتهكُّم، وكأننا أمام ما هو أدنى من البُهلولٍ، ولعَمْري، كم كان البُهلول عزيزاً جامعاً لكل خير كما عرَّفه أبوسعيد السيرافي في شروح اللغة.

عندما تدقق فيما يكتبه البعض تصاب بالذهول. ذهولٌ ليس منشؤه الانبهار بعُلُوِّ ما هو مطروح، وإنما بمدى التخلف الذي وصلت إليها بعض الأقلام في تناولها لموضوعات الخلاف الديني والسياسي والاجتماعي. من أول كلمة حتى ذيل المقال (أو حتى في الأخبار الموجَّهة توجيهًا مُبيَّتاً)، لا تدري أين سينتهي بك المطاف، وأنت أمام كلمات وسطور وفقرات، مليئة بالأفكار العرجاء، والكلمات النابية، والأوصاف الكريهة، التي تقال (مرة بالغمز، ومرة أخرى بالتصريح) بحق أشخاص وجماعات وطوائف وأديان وشعوب، لها مكانتها وكيانها الطبيعي، وزخمها البشري، وحساسيتها القومية، والدينية، والنفسية، وكل ما له علاقة بتعقيدات البشر.

هذا النوع من الأقلام، تشوِّه صورة أصحابها. بل هي تلحق الضرر، بشكل المجتمع والدولة، التي تعيش فيها تلك الأقلام. فحركة التدوين، والنثر بضروبه المختلفة، بما فيه الصحافة، هي إحدى صور المجتمعات والنظم السياسية. بل إن هناك علاقة طردية بين الجانبين، فكلما زادت جودة الفكر، والجهد الصحافي (غير الأصفر، وغير المهيِّج للنعرات الطائفية والعرقية) استقرت صورة الدولة أمام الرأي العام العالمي. والعكس صحيح، وأمامنا في ذلك التجربة الكينية، مع المذيع والصحافي الكيني جوشوا أراب سانغ، الذي دفع بالمحكمة الجنائية الدولية في لاهاي لأن تطالب بمحاكمته، بعد توجيه التهمة إليه بالاشتراك في التحريض على ارتكاب جرائم ضد الإنسانية.

بإمكان أيِّ قلم أن يُعبِّر عن قناعاته، ولكن بشروط ما تسَالَمت عليه الكتابة من ذوق رفيع، وعدم الحطِّ بكرامة الغير، والاستعاضة عن ذلك باستخدام أقصى درجات العقل، في تأسيس المكتوب على بنى فكرية سليمة، وواضحة. لقد عُرِفَ آرثر شوبنهاور، بفلسفته التشاؤميَّة، وتأييده للانتحار (حتى) لكنه أيضًا خلَّد لنا فكرًا فلسفيًا، أظهر لنا العلاقة ما بين الإرادة والعقل، وقيام الوجود على الحكمة والغائية.

أمر آخر يجب الإشارة إليه هنا، وهو أن موضوع الكتابة، لم يعد كالسابق، حيث يبقى حبيس الرفوف، أو خاضع لآليات متخلفة من عمليات التسويق والإثارة، القادرة على نشره قبل أن تقوم من مقامك. بل اليوم، الفضاء مفتوح، ولم يعد خافيًا على أحد. فما يُقال وما يُكتَب، بإمكان خبر حَدَثَ في الشرق، أن يصل لأهل الغرب قبل أن يدري به أصحاب الشرق أنفسهم، وقد حصل ذلك بالفعل. وبالتالي أصبحت الكتابة، جزءًا من حركة البشر وتطورهم، وتطور اجتماعهم، وسِلمِهِم، وحربهم، وبالتالي، لا يجوز بأيّ حال من الأحوال، جرّ هذه الوسيلة الراقية (الكتابة)، نحو شرور الناس، وجموح عواطفهم وغرائزهم المنفلتة، وكأننا نعيش في القرن السادس عشر، خصوصًا في هذه الظروف الإقليمية والعالمية الحساسة والمتشنجة، والمتهيِّئة لقبول أي شَرَر.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 3554 - الأربعاء 30 مايو 2012م الموافق 09 رجب 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 15 | 8:47 ص

      الهجاء في الشعر جريمة

      حتى قصائد الهجاء التي استخدمت كلمات نابية كانت محل سخرية واستنكار من سادات العرب

    • زائر 13 | 4:20 ص

      كتاباتك تستحق القراءة

      مقال رائع جدا، حقاً إنك بارع..

      بارك الله فيك..

    • زائر 11 | 3:57 ص

      أنت بحق رائع

      مقال رائع وبديع وينم عن ذوق رفيع ووصف دقيق ... هكذا تكون الكتابة وإلا فلا ... شكرا لك

    • زائر 12 | 3:57 ص

      أنت بحق رائع

      مقال رائع وبديع وينم عن ذوق رفيع ووصف دقيق ... هكذا تكون الكتابة وإلا فلا ... شكرا لك

    • زائر 9 | 3:25 ص

      انهم كتاب العازة

      خسرت تجارتكم اشتريتم الهزيل الضعيف الخاوي



      وعذركم ليس كل ما ترغبون فيه معروض للبيع





      دفعتم لكنكم لم تجدوا ما تشترون الا الهزيل الضعيف ومن رغب عنه غيركم

    • زائر 8 | 1:33 ص

      جعل اللسان على الفؤاد دليلا ( نونو الصغير )

      الذين اتخذوا من الأنحطاط في الكتابة مسارا للنيل من الخصوم ينطبق عليهم هذا القول ، اذا رأيت شممت رائحة زكية فتأكد ان ورائها وردة ناظرة أظهر ذلك العطر ، واذا شممت رائحة نتنة مقرفة فتأكد ان واء تلك الرائحة ( جيفة ) عفنة كذلك الكلم والكتاب اذا قرأت كتابا أو مقالا أو قصيدة وان كان بها هجاء حتى لشخصك ولكن يجبرك كاتبها أن تحترمه لأنه قارعة حجتك بحجة ، وبالعكس في الكتابة الوضيعة التي يستخدم كاتبها ما انحط من الجمل النابية تحتقره لأنه احتقر نفسه ولم يظهر الا كالجيفة التي يفر الناس منها .

    • زائر 7 | 1:32 ص

      القافلة تسير و ........ تنبح

      المطالبة بالحق و تقرير المصير سوف تستمر و يستمر النباح

    • زائر 5 | 12:46 ص

      هم أولاد هذه الفتن

      الشكر الجزيل للأخ على هذا الطرح الدقيق و التوصيف المميز هذا هو النقد دون تجريح و قذف .
      هؤلاء يا أخي أبناء الفتن التي لو لا وجودها لما كانو فهم يقتتاتون عليها

    • زائر 4 | 12:36 ص

      علي بن أبي طالب علمنا

      قال الوصي تكملوا تعرفوا فإن المرء مخبوء تحت طيات لسانه. والقلم أو اللسان ماههما إلا أداتا نقل لما هو في القلب (العقل). إذن ربما تخفي نفوس هؤلاء أكثر لأنهم لا يفقهون غير التكرار فتراهم يعيدون صياغة نفس الجملة ونفس الموقف. \r\nمن يقرأ لهم للاطلاع على أفكارهم يذهل أن هناك من أعطى غيره مفاتيح عقله ليفكر هو عنه.

    • زائر 3 | 11:59 م

      هكذا أنت!

      مقال بديع و مقام رفيع أحرى بأن يُكتب بماء الذهب ..
      لا غرو ولا عجب ..
      هكذا دأبك وهكذا عوّدتنا
      لله درّك أيها القلم السيّال
      تحياتي

    • زائر 1 | 11:42 م

      احسنت

      المقال رائع حقيقة ويلامس واقع الصحافة في هذا العصر

اقرأ ايضاً