العدد 3587 - الإثنين 02 يوليو 2012م الموافق 12 شعبان 1433هـ

لك الوطن... وله الوطنية

وسام السبع wesam.alsebea [at] alwasatnews.com

«ما فيه مستقبل يا خالي»... هذه العبارة قرأتها على خلفية سيارة يقودها شاب في عمر الورد يبدو حانقاً كما يوحي «النيك نيم» الذي يدمغ سيارته الـ BMW ذات الموديل الثمانيني.

عبارات عديدة ذات «أشكال وألوان» تحمل ذات الفكرة أخذت تنتشر بشكل ملحوظ في الآونة الأخيرة، رسائل احتجاج ناعم ظاهرها فكاهة وباطنها مرارة وإحساس بالضياع لدى فئة من المجتمع يفترض أن يكونوا ثروة البلد المستقبلية. يلجأ الشباب لهذا اللون من التعبير عن الذات للتعبير عن السخط والسخرية اللاذعة من الواقع الذي يعيشونه وتعيشه فئات مهمّشة تشعر بأنها مطرودة من وطنها، وأن المستقبل «ليس لها» على هذه الأرض.

مثل هؤلاء الشباب المحبطين لا تنقصهم أي مؤهلات تسعفهم في العثور على فرصة عمل وحياة كريمة يستحقونها في بلد ولدوا وعاشوا فيه أباً عن جد عن سابع سلف، لكن الواقع يبدو أشد إيلاماً وميلودراميةً من كل الأماني الجميلة التي يطلقها ذوو النوايا الطيبة أو يلوكها الإعلام الرسمي وسط عتمة تلفّ هذا الواقع المثخن بألف جرح وطعنة.

لا تقتصر هذه الجائحة المرذولة من «الإحباط» لدى طبقة الشباب الذين تخطو سنوات العشرين العسيرة بكل استحقاقاتها المكلفة، بل تمتد إلى جيل الآباء ممن باتوا في همّ دائم على مستقبل أبنائهم في التعليم والتوظيف وفرص الحياة الكريمة في مجتمع باتت فيه هذه «فرص» ضنينة وتفصل وفق اشتراطات الانتماء الطائفي ومقاسات الولاء، في مجتمع مفخخ بالشكوك وملوث بسحب التخوين ولا عزاء بعدها لذوي الكفاءة أو المتفوقين دراسياً من أبناء الوطن الحائرين أمام مستقبل غامض لا أبواب له ولا مفاتيح.

مؤسف أن ينقسم الوطن أمام بنيه كل هذا الانقسام، فيعطي لهذا «وطناً» بكل مكاسبه وثرواته وحظواته، ويعطي للآخر «وطنية» بكل أدواتها النضالية المتقشفة وحسراتها وأوجاعها وأحلامها البعيدة. إنه وضع مقلوب تأباه المجتمعات الإنسانية وسبق أن تجاوزته الأمم المتحضرة من حولنا.

يروي عالم الاجتماع العراقي علي الوردي (ت 1995): «لقد أدهشني حقاً ما وجدته في الولايات المتحدة الأميركية من حرص ورغبة لدى الشبان من تطوع في الجيش أثناء الحرب، هذا مع العلم أن كل أميركي له الحق قانوناً أن يرفض التجنيد من غير ضير عليه أو حراجة، وطيلة مكوثي في الولايات المتحدة لم أسمع أحداً يتفوه بدعوى حب الوطن أو وجوب التضحية في سبيله، إنهم ينسون الوطن في أقوالهم ويخدمونه في أعمالهم».

الوطنية ليست كلمات، ولا أغاني ولا أشعار، ولا حتى سيوف ورايات، الوطنية واجب والتزام أخلاقي وسياسي واجتماعي. الوطنية ليست «فزعة» أو «حذاء» نرتديه في المناسبات، أو «ثوب مخملي» نتباهى به كما لو كنا في «عرض أزياء» يُنقل مباشرة على الفضائيات الرسمية. الوطنية شعور نبيل وليست نزعة تدميرية قائمة على الانتقام والفتك.

يقول الكسي كارليل: «جميل أن يموت الإنسان في سبيل وطنه، والأجمل أن يحيا لأجله». لكن وطناً بلا طمأنينة من الممكن أن يكون أي شيء إلا أن يكون «وطناً»، وجميل أن يحتفظ المرء بشعلة الوطنية جذوة مستعرة في داخله رغم كل الظروف، غير أنه ومع الغياب القاسي لشروط العدالة والإنصاف التي تميز المجتمعات والدولة المستقرة، تخرج إلى السطح ظواهر المتاجرة والارتزاق باسم الوطنية وتقوض دعائم الاستقرار ويصبح النسيج الاجتماعي بين مكونات الشعب مهلهلاً وأوهن من بيت العنكبوت.

في إطار دراساته المتواصلة للتجربة العراقية منذ لحظة تشكيل الدولة الحديثة في عشرينيات القرن الماضي، يؤكد حسن العلوي بأن «الوطنية هي ليس المنشور السياسي والعقيدة العصماء، والمظاهر الحاشدة للنيل من الدول الاستعمارية (وغيرها طبعاً)، بل هي أيضاً الوسائل التي تعيد الوطن المغتصب لأهله، أو نعيد المنفي بكامل إرادته وحريته إلى موطنه». ويعيد العلوي في كتابه «العراق الأمريكي» ما أورده في خطاب له بمؤتمر المعارضة العراقية في بيروت العام 1991 حين قال «إن السنة والشيعة عند تأسيس العراق الحديث رضخوا لقسمة كان كل منهم فرحاً بنصيبه منها، فالسنة أخذوا الوطن والشيعة أخذوا الوطنية، ومن يأخذ الوطن يأخذ معه القانون والثروة والتعليم والجيش المدجج والسفارات والسيادة المطلقة، ومن يأخذ الوطنية يأخذ أدواته المعهودة، منشوراً سرياً وشعاراً على الجدران الخربة وبندقية صدئة في الأهوار».

العلوي يرى بأن المعارضة الشيعية للحكم السني في العراق خلال ثمانين عاماً، عدا فترة العمل المسلح في الأهوار في الثمانينات، كانت أرقى وأكثر تحضراً بما لا يقاس مع أعمال تنسب حالياً للمعارضة السنية، فعلى رغم أن العراق البريطاني قد بايع أهل السنة على أكثر من ثمانين في المئة من حصة الدولة والسلطة، ولم يستخدم الشيعة خلال 80 عاماً في رفض تهميشهم سوى القلم والورقة لكتابة مذكرة يبعث بها الشيخ محمد الحسين كاشف الغطاء إلى رئيس الوزراء الهاشمي، أو مذكرة يبعث بها الشيخ الشبيبي إلى الرئيس عبدالسلام عارف، أو احتجاج على إهمال الشيعة تصدر من النائب عبدالمهدي المنتفجي، أو في أقسى المواجهات قصيدة شكوى لشاعر شعبي...» وضعٌ أرسى دعائمه الشوهاء «العراق البريطاني» في الأمس وامتدت نواتجه السلبية على «العراق الأميركي» اليوم.

نريد في البحرين «وطناً» و «وطنية» للجميع - متجاوزين فيه كل أخطاء الماضي - وأتمنى بشكل خاص أن يؤمن الشباب، كل الشباب، بأنه هناك «مستقبل يا خالي» ينتظرنا جميعاً. ولن يحدث ذلك إلا بمصالحة وطنية حقيقية وإصلاح ذي مغزى يطوي صفحة الآلام ويدفن كل هذه الأحقاد التي نراها عياناً بياناً.

إقرأ أيضا لـ "وسام السبع"

العدد 3587 - الإثنين 02 يوليو 2012م الموافق 12 شعبان 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 3 | 7:41 ص

      تستاهل الوسام ولكن ما باليد حيلة

      على هالمقال تستاهل وسام يا وسام
      لكن على قولة أهل الوطن والوطنية تأذن في قربة مقضوضة ، عمك أصمخ ، ما يمشي إلا ما يبغون بلا وطن ولا وطنية ، عمي المسألة كلها مطية ، رحمك الله يا ملا عطية

    • زائر 2 | 3:09 ص

      جمييييل

      يعجبني دائما في مقالاتك روحك الايجابية والطموحة وقلمك الذي يشع منه الأمل والتفاؤل ... فالوطن والمواطن علاقة عطاء متبادل

اقرأ ايضاً