العدد 3602 - الثلثاء 17 يوليو 2012م الموافق 27 شعبان 1433هـ

إنها محض رواية... والعهدة على الراوي

رملة عبد الحميد comments [at] alwasatnews.com

كاتبة بحرينية

قال العرب قديماً: من لم يشتغل بالشعر فعليه بالرواية، فللرواية أهمية بالغة، فهي كالخبر المنشور الذي يتداوله الناس بشغف واهتمام، فهناك من يحسن روايتها بحدثها وبنصها الدقيق، وهناك من يصيغها بحرفية بالغة، بحيث تبدو صادقة وهي على النقيض.

بينما آخرون يكذبون بروايات ملفقة وواضحة للعيان بأنها محض خيال، ومن هذا المنطلق ظهر لدى العرب علم التحقيق من الروايات، ولها منهجية خاصة يعتمدها من أراد التمحيص والتأكد، قبل التصديق والنشر والاكتفاء بالقول «العهدة على الراوي».

للرواية جزآن، هما السند والمتن، فالسند - وقيل الإسناد- هو ناقل الرواية، وهو سلسة من الرجال، وفي حالنا هو المحطات الإخبارية أو وكالات الأنباء، وفي أحسن الأحوال ناطقون رسميون أو رجال صحافة وإعلام. أما المتن فهو نص الرواية، وهو ما ينتهي إليه السند من كلام.

وحضارتنا العربية الإسلامية لم تستند إلى أية رواية تذاع قبل تمحيصها من السند إلى المتن، فلابد من دراسةٍ لسلسلة الرواة الذين يطلون علينا في الرواية، والتأكد من وجودهم بالفعل، ومعاينتهم لزمن الحدث أو زمن من نقلوا عنه، فيقال أن بعض الرواة لا وجود لهم أصلاً.

كما يجري التحري من مصداقيتهم، ومقدرتهم على الحفظ، وإمكانياتهم في النقل، والظروف الموضوعية المحيطة بهم، لذا وضع العرب ما عُرف بتراجم الرجال، فلا تأخذ برواية سندها «قال الراوي» أو «نقلاً عن رجل من اليمن» مثلاً، وفي يومنا «نقلاً عن مصدر مسئول» أو»معلومات خاصة».

أما المتن فيخضع لمقاييس أخرى، منها منطق الحديث ومناسبته مع العصر، وإمكانية حدوث الحدث قياساً بالواقع، وعدم تناقضها مع العقل والمنطق، فقد تصبح مجرد إشاعات وهمية لا تمت إلى المصداقية بصلة، فالصدق هو المقياس في الأمر كله، وهو المرجح للقبول، ولا يمكن أن تقوم واجهة إعلامية على الكذب والتدليس.

مع مطلع الألفية الجديدة كنت طالبةً في الدراسات العليا بجامعة الكويت، حينها كانت الكويت مشغولةً باستجواب رجال البرلمان لوزير التربية آنذاك، والذي واجه التحدي بقبوله صعود منصة الاستجواب.

الصحافة قبل موعد الاستجواب امتلأت بتصريحات النواب المستجوبين، ومعهم بعض من كتاب الأعمدة الذين ملأوا الصحف بملفات تطيح بالوزير، واقتنع الكثير من الناس بأن الثقة ستسحب من الوزير لا محالة، لكن في يوم الاستجواب فاجأ الوزير الشارع الكويتي بترتيب أوراقه، وعرضها بشكلٍ غيّر موازين القوى لصالحه، حينها قال لنا أستاذنا في حلقة نقاشية تعقيباً على الحدث باللهجة الكويتية الدارجة: «كذب مصفف أحسن من صدق مخربط»!

ابتسمت، وبدأت أفكّر فيها، إلى أية درجة تبيح السياسة والمصالح استحسان الكذب؟ واستذكرت ما كانت تقوله أمي –رحمها الله– عادةً: «إن كان الكذب ينجيك مرة، فالصدق ينجيك ألف مرة»، فالناس إن كانت لا ترى الكذب واضحاً فهي تشعر به، والصدق في الإعلام ومن يمتهنه هو أول الامتحان وأصعبه بالنسبة لهم، ما أسهل الكذب وأكثر طرقه، وما أصعب الصدق في الزمن الصعب، ولكن ما أريح نتيجته.

كن صادقاً مع ذاتك ومع الآخرين، مع من تحب ومع من تكره... إن كنت ترجو السلامة.

لم يختلف زماننا عن سلفه العتيق، وما تاب المشتغلون بالروايات الكاذبة عن التلفيق، واستغفال الناس بالمذيع الصدوق الصديق، فالإعلام نصفه كذبٌ وتصفيق، وما الأخبار الواردة كلها تلتزم بالتدقيق، لكن ما وراء الخبر يبقى فيه شيء من التوفيق، وعليه فإن دور المتلقي يكون التمحيص قبل القبول والتصديق.

وفي وطننا الصغير كثرت الروايات وأصبحت تساوي وزنها بخمسة أطنان من العقيق، وتثمَّن بالملايين التي تزيد على العشرة بالتحقيق، وأصبحت في حملها كالريش الذي لا يجد في طريقه سوى الحريق، الذي ينتظر بدوره رواية البطريق، وربما نستفيق غداً على من يقول لنا: إن درجة حرارة الجو عندنا لا تتجاوز العشرين الحقيق.

إقرأ أيضا لـ "رملة عبد الحميد"

العدد 3602 - الثلثاء 17 يوليو 2012م الموافق 27 شعبان 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 5 | 10:03 ص

      كتابٌ فيهِ روايةٌ رواها كاتبها، ويحكى أن ..

      القصة ليست رواية، لكنها قد تكون حكاية أو من نسج الخيال.
      فقال و حدث و روي عن راوي قد رحل عن الدنيا ليضع الانسان في متاهة ويصعب عليه السؤال والتحقق من الرواية ومن شهادة الراوي للقصة أو الحكاية هل كانت من الخيال أم واقع رآه في الأحلام...
      ألم يكن "تبينوا" فعل أمر ليس نهي من الله في محكم كتابه!
      أم المخالفة بينة على من خالف ولم يتبين؟

    • زائر 4 | 5:51 ص

      صدقتي

      نعم أستاذة الكذب ينجيك مرة ، فالصدق ينجيك الف مرة ولاكن

    • زائر 3 | 1:30 ص

      كاتبه مميزة

      مقال رائع و جميل له نظرته الخاصه للامور لا يدع مجالاً للتشكيك في ان الكاتبة مميزة بحق
      ما اعجبني في الموضوع هو النقد الغير صريح للتصريحات المتكرره لوزاره الداخليه خاصةً عندما استدلت بمقولة البروفيسور كذب مصفف احسن من صدق مخربط

    • زائر 2 | 12:59 ص

      صاحب قلم

      الغريب في هذا الزمن أنه بيننا من يؤلف الروايات حسب هوى عقله الصحيح ويصدقها ويريد للدنيا كلها أن تصدقها!! أما علم التحقيق من الروايات فهذا جانب مفقود في أدبيات البعض الذي لو حلم بأن الشمس باردة فإنه سيكتب آلاف الروايات ليثبت فيها محض خياله قاطعا الطريق على غيره ممن يجيدرن مهارات التحقيق نت الروايات والبيانات والمعلومات.

    • زائر 1 | 12:40 ص

      رواياتهم ...

      رواياتهم ضعيفة سنداً ومتناً

اقرأ ايضاً