العدد 3608 - الإثنين 23 يوليو 2012م الموافق 04 رمضان 1433هـ

العقل المأزوم بالطائفية

وسام السبع wesam.alsebea [at] alwasatnews.com

أساليب الشحن المذهبي والطائفية السياسية التي نعيشها اليوم في واقع الأمر ليست جديدة، بل ذات جذور تاريخية عميقة، لكنها بكل تأكيد ازدادت ضراوتها مؤخراً لأسباب تتعلق بالتحولات السياسية في المنطقة وخصوصاً في العراق ولبنان، وباتت دول الخليج الصغيرة عرضة لهذه الهزات العنيفة، وخصوصاً بعدما أخذ الإعلام العربي ينفخ في رماد مشروع «الهلال الشيعي» المرتبط بالقوس الجغرافي الممتد من إيران مروراً بالعراق وسورية إلى لبنان، ويستميت في الترويج لهذه الخرافة لغاية في أنفس بعض الأنظمة.

في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين عاشت حركات التحرر العربي حالة من التعالي الجميل على حساسياتها المذهبية، فقد انضم شيعة جنوب لبنان إلى «المقاومة الفلسطينية» بقيادة حركة «فتح» ذات القيادة السنية ولكن غير الطائفية، وانضم الشيعة إلى جانب السنة والمسيحيين إلى القوميين العرب والحركة القومية بقيادة جمال عبدالناصر، وانضم السنة والشيعة معاً إلى التيارين البعثي واليساري العربي من المحيط إلى الخليج. في هذه الأجواء عاش المسيحي العربي إلى جانب السني والشيعي المسلم في معظم أنحاء الشرق من دون التفات إلى اختلاف ديني. فالدين وفق التصور العربي في ذلك العصر كان ينظر إليه كأمر خاص يرمز إلى العلاقة الروحية بين الفرد وربه بينما الأوطان للجميع.

هذا ما كان يجري على مستوى حركات التحرر العربية، بيد أن ما كان يجري في معترك التنظير الفكري كان شيئاً مختلفاً، فلقد انحصرت هموم مثقفي حركة القومية طيلة عقود من الزمن بدءاً من الربع الأخير من القرن الماضي في الترويج لمشروعهم القومي ومحاولة تصفية الفكر العربي مما لحق به من عناصر اعتبرت غير أصيلة في ثقافة العرب، والحال أن هذا الهاجس الذي كان يقلق هؤلاء المفكرين دأب على التستر على الشعوبية التركية وكرس جل حربه ضد الشعوبية الفارسية فقط (الآن يطلق عليها الصفوية، وفي الثمانينيات شاع لفظ المجوس)، متجاوزاً بذلك حدود البحث العلمي الوقور إلى الغمز الطائفي، وأحياناً إلى الاعلان الرسمي للتشهير بمذهب معين. حتى ان أحدهم قد تجرأ على وضع رسالة أثارت ضجة في الثلاثينيات من القرن الماضي بعنوان «العروبة في الميزان»، صرّح فيها دون مواربة بأن الشيعة فرس أينما وجدوا وهم في العراق من بقايا الساسانيين، وأن تاريخهم تاريخ الشعوبية نفسه! وبهذا يسقط الجنسية عن مليوني عربي من مجموع سكان العراق البالغ مطلع تأسيسه الحديث في عشرينيات القرن الماضي ثلاثة ملايين نسمة.

وخلال بحثهم الحثيث عن فكرة النقاء القومي، أسقط المشتغلون في حقل الفكر القومي «الجنسية العربية» عن عمالقة الفكر وسادة الشعر العربي، ومن هنا جاءت دعوة أبرز مؤسسي الحركة القومية في العراق سامي شوكت (ت 1954) وزعيم نادي المثنى وهو يعلن في إحدى محاضراته عن إسقاط الجنسية العربية عن العالم المفكر ابن خلدون (ت 1332م) ويطالب بحرق كتبه بعد أن دمغه بالشعوبية. وبديع شريف وهو يعلن في المركز الثقافي البريطاني في بغداد إسقاط الجنسية العربية عن الشاعر ابن الرومي للسبب ذاته.

وكان ساطع الحصري (ت 1965) قد سبق الجميع باسقاط الجنسية العربية عن شاعر العرب محمد مهدي الجواهري (ت 1997)، ولم يكتف هؤلاء بنزع الهوية عن العديد من المفكرين والشعراء العرب بل عرجوا على الماضي فأسقط عبدالعزيز الدوري (ت 2010) الحركات الثورية من تاريخ العرب وأرجع نسبتها إلى العجم، وما أشبه الليلة بالبارحة.

يجري ذلك في الوقت الذي يتم فيه إغفال هؤلاء الكتاب إغفالاً تاماً أخطر مشروع شعوبي في تاريخ العرب والذي تمثل بسلب القيادة العربية بإعلان السلطان سليم الأول العام 1517م انتقال الخلافة من الجنس العربي والأرض العربية إلى الجنس التركي والأرض التركية. وبهذا أزال سلطان العرب إزالةً فعلية، فلم يتعرض لهذه القضية كاتبٌ أو كتاب فيما يجري الاهتمام الكبير بأبيات شعرية منسية لشاعر شعوبي مجهول!

وقد جرى الإغفال التام للسياسة العنصرية الشوفينية الرامية لتذويب الأمة العربية في الأمة التركية وتخريب ثقافتها فيما سمي بـ «حركة التتريك» لعقودٍ طويلةٍ من الزمن. إذن كان منظّرو القومية العربية يفكرون بعقل مطأفن وغير نزيه، وقد بثوا أحقادهم الطائفية في ثنايا فكر كان يراد له أن يكون عروبياً صرفاً.

لقد استخدم العرب الإسلام طريقة عربية لحكم الفرس، لكنهم واجهوا بعد التجربة العثمانية وضعاً معكوساً، حيث استخدم العثمانيون الإسلام طريقةً تركيةً لحكم العرب بعد أن أوقفوا فتوحاتهم في أوروبا وتحوّلوا إلى آسيا العربية، ليتحول العرب بمدافع السلطان سليم من حاكمين إلى محكومين. وكان انتقال الخلافة إلى العثمانيين موقع خلاف بين الفقهاء وقد اعترض بعضهم على هذا الانتقال استناداً إلى ما ورد عن النبي (ص) انه قال: الأئمة من قريش، والشائع أن السبب الذي جعل الدولة العثمانية شديدة التمسك بالمذهب الحنفي أن أبا حنيفة كان لا يأخذ بهذا الحديث، ويرى من الجائز أن تكون الخلافة في غير قريش.

إسقاط الجنسية العربية عن مفكرين قدّموا للتراث الإنساني زبدة فكرهم وحياتهم لا تقل فظاعةًً وسخفاً عن إسقاط الجنسية عن شركاء الوطن ودمغهم بالخيانة العظمى لمجرد الاختلاف في الموقف السياسي، فموقف الأولين كان موقفاً فكرياً، في حين أن موقف الآخرين كان مبنياً على مبررات سياسية مرحلية، وتعددت الأسباب و «الطائفية» واحدة.

***

إلحاقاً بالموضوع السابق (آباؤنا الوطنيون: إضاءة في تاريخ شعب) سألني بعض الأصدقاء عن مصدر المعلومة التاريخية المتعلقة بالسيد علي كمال الدين، ويتوجب أن أوضح أن المصدر الوحيد لهذه المعلومة هو كتاب نجله الأكبر محمد حسن كمال الدين «على ضفاف الوطن: العالم المصلح السيد علي كمال الدين»، لذا وجب التنويه.

إقرأ أيضا لـ "وسام السبع"

العدد 3608 - الإثنين 23 يوليو 2012م الموافق 04 رمضان 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 10 | 5:47 م

      موضوع مهم

      الموضوع بكل إبعاده
      جانب مهم وخطير؟؟؟؟؟؟؟؟؟
      وعليه لابد للوقوف بحزم إزاء هذه الوراثة السيئة التي حفل بها عالمنا العربي
      وأصبحت كواقع محتم علينا تقبله ,بل والتعايش معه ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
      وإنما عدت إسقاط الجنسية إجراء رادع لكل من يتجاوز الخط الأحمر الذي فرضته الأنظمة الحاكمة .
      هل رفض الظلم وعدم التجاوب مع النغمة والعقلية السياسية جرم مثله كمثل المرتكب جريمة مخلة بالشرف وتكون عقوبة المذنب إسقاط الجنسية !!!

    • زائر 9 | 2:59 م

      ليتني كنت موجوداً في ذلك الزمن

      ((فالدين وفق التصور العربي في ذلك العصر كان ينظر إليه كأمر خاص يرمز إلى العلاقة الروحية بين الفرد وربه بينما الأوطان للجميع))...كان الفرد وقتها يتعايش مع الآخر المختلف عنه طائفةً وديناً, ففي ذلك الزمن تنتشر فيه الحركات السياسية ذات الطابع العلماني..ما أجمل ذلك الزمن! ويا حسرتي على هذا الوضع البغيض الذي وصلنا إليه بسبب أحزاب الإسلام السياسي الطائفية (إخوان مسلمون - سلف-حركات شيعية) التي هي سبب بلاء هذه الأمة

    • زائر 8 | 1:46 م

      محرقية

      هل صحيح ان العقول مأزومة بالطائفية ام الانظمة هي المأزومة بالطائقية

    • زائر 7 | 7:00 ص

      انهم ينفدون وهم ادوات ليس الا

      انهم ينفذون مخطط الشيطان الاكبر من حيث يشعرون أو لا يشعرون

      صراعات بين ابناء الوطن الواحد وصراعات بين ابناء الدين الواحد ويخلقون صراعات وقودها ابناء الدين الواحد
      والوطن الواحد تلك استراتيجتهم فالننظر حولنا لندرك غايتهم وهدفهم لكن مع الاسف هناك من يغذي ويمول تلك الصراعان ضنا منه انه ناج منها

      فالحذر الحذر مما يخططون يابني ادم كافة من الوحوش البشرية

    • زائر 6 | 4:02 ص

      التاريخ يعود نفسه اليوم والموقف التركي

      وقد جرى الإغفال التام للسياسة العنصرية الشوفينية الرامية لتذويب الأمة العربية في الأمة التركية وتخريب وفقاثتها

    • زائر 5 | 3:09 ص

      الحقيقة لابد لها من الظهور

      حبل التدليس قصير ... والحقيقية لابد لها من الظهور
      مقال رائع .. شكرا لكم

    • زائر 4 | 3:02 ص

      وقد جرى الإغفال التام للسياسة العنصرية الشوفينية الرامية لتذويب الأمة العربية في الأمة التركية وتخريب

      وقد جرى الإغفال التام للسياسة العنصرية الشوفينية الرامية لتذويب الأمة العربية في الأمة التركية وتخريب وثقافتها

    • زائر 2 | 1:38 ص

      مقال جميل

      مقال يتصف بالتحليل المتقن والعرض السلس والموضوعية والحقائق العلمية الموثقة بورك فيك

    • زائر 1 | 11:46 م

      جواهر اللغة تجدها لدى الجواهري

      ما وجدت شاعر في العصر الحديث يمتلك من العضلات اللغوية كما يمتلك الجواهري، وكأنك أمام ناسك عمل لسنين في معبد اللغة العربية ليجمع من الكَلِم جواهره، وإذا بعد هذا يطلع الجواهري مو عربي صراحه بعد ما عندي كلام، واذا هم قالو چدي أنا عادي أقول ان شكسبير عربي مو انجليزي واسمه الحقيقي " شيخ زبير " ههههه

اقرأ ايضاً