العدد 3633 - الجمعة 17 أغسطس 2012م الموافق 29 رمضان 1433هـ

مساحة حرة - السيرة الذاتية للأفكار وصناعة الانتباه

إبراهيم الشاخوري
إبراهيم الشاخوري

أخبرني صديق عن رجل سافر لبلد أجنبي في رحلة عمل. ذات مساء زار مطعماً لتناول شيء، أثناء جلوسه تقدمت نحوه امرأة غاية في الجمال وعرضت عليه مشاركته الطاولة، بعدها عرضت عليه مشروباً كان آخر شيء يتذكره، حتى استيقظ في حوض في أحد حمامات الفنادق وجسده مغمور بمكعبات الثلج. بدأ الرجل بالتلفت حوله في حالة من الهلع ليجد هاتفاً وضعت عليه ورقة صغيرة تطلب منه عدم التحرك والاتصال بالطوارئ، مد يديه المرتعشتين من برودة الثلج إلى الهاتف واتصل بعامل الطوارئ الذي لم يكن مندهشاً، سأله العامل: سيدي، هلا حاولت أن تمد يدك بكل حذر لظهرك وتتحسس وجود أي أنبوب؟

وبالفعل حين تلمس ظهره وجد أنبوباً يخرج منه، عندها قال له عامل الطوارئ: لا داعي للهلع، ولكن تمت سرقة إحدى كليتيك من قبل عصابة في المدينة، سيارة الإسعاف في طريقها إليك، حاول ألا تتحرك.

هذه القصة هي واحدة من القصص التي تقاوم كل عوامل النسيان، والتي سرعان ما سيحكيها القارئ للآخرين بغض النظر عن صدقها أو عدمه، ولكن شيئاً ما يبدو مثيراً حول هذه القصة لدرجة تدفعها للالتصاق عميقاً في ذاكرتنا، فهل تولد الأفكار بموهبة طبيعية للالتصاق في ذاكرتنا؟ أم أنه شيء آخر يجعلها تصمد أمام كل عوامل النسيان؟ وكيف تبقى هذه الأفكار في الذاكرة رغم الكم الهائل من المعلومات التي نستلمها يومياً؟

كتابة «السيرة الذاتية» للأفكار يمكنها أن تفضح كل شيء عن فكرة ما، فهي تخبرنا عن مولد هذه الفكرة وسبب شهرتها وتخبرنا عن سبب بقائها وصمودها، هي ذاتها الأسباب التي تفسر سبب انتشار موضة ما واضمحلال أخرى. ولا يوجد في «السيرة الذاتية» للأفكار أي سحر أو طلاسم، فهي تتمحور حول «الانتباه» بصفته السلعة الأكثر ندرة في عالمنا المعاصر، فما تستهلكه المعلومات والأفكار بديهي، إنها تقتات على انتباه المستقبلين، والنتيجة الطبيعية للكم الهائل من الأفكار والمعلومات هي معركة شرسة للتربع على عرش مملكة «الانتباه».

وبحسب إحدى مراكز الدراسات فإن المستهلك الأميركي يستقبل 254 رسالة دعائية كل يوم، وكما لدينا فقد وصل الأمر في حرب الرسائل الدعائية إلى محاولة الحصول على أقل «فسحة انتباه» ككرسي في قسم الطوارئ أو حين الوقوف في صف لدفع فاتورة ما، حتى هذه الفسحة البسيطة لم تسلم من حرب الانتباه. هذا أنتج مفهوماً اقتصادياً جديداً يدعى «صناعة الانتباه»، يتحدث عن الانتباه كونه سلعة تحرك السوق وتتأثر بالعرض والطلب.

وعودة لموضوع «السيرة الذاتية» للأفكار، فإن الباحثين طوروا مفهوماً يدعى «عنق الزجاجة» وفكرته أن العقل يعمل مثل عنق الزجاجة، فعند استلام العديد من الرسائل في مستوى الوعي يقوم العقل بتأخير المعلومة التالية لمدة محدودة ريثما تتم معالجة المعلومة السابقة. فمثلاً بعد عرض أربع دعايات تلفزيونية مدة كل واحدة 15 ثانية في فاصل إعلاني يمتد لدقيقتين ونصف، فإن فرص أي إعلان بعدها للحصول على الانتباه لا تتعدى الصفر، وهو تماماً حال الفواصل الإعلانية المحمومة في شهر رمضان الكريم.

في نفس السياق فإن الأنظمة طورت «حرب الشائعات» بصفته أداة قوية ربما تحسم الحروب لصالح أحد الأطراف عبر نشر إشاعات بقوة التصاق هائلة، وهو أمر يمكن ملاحظته على مستوى مجتمعاتنا حين تنتشر إشاعة ما، وبرأيي فإن العديد من نسائنا وشبابنا موهوبون فطرياً في صناعة الشائعات، موهبة جعلت من البعض نجوماً في مواقع التواصل الاجتماعي، وزعماء الجلسات والمسامرات في «البسطات» والقهاوي.

إبراهيم الشاخوري

العدد 3633 - الجمعة 17 أغسطس 2012م الموافق 29 رمضان 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً