العدد 3651 - الثلثاء 04 سبتمبر 2012م الموافق 17 شوال 1433هـ

عبدالرحمن النعيمي... جدارية الخلود وحضرة الغياب

عبدالحسين شعبان comments [at] alwasatnews.com

كاتب عراقي وحقوقي عربي

لا أدري لماذا استعدت محمود درويش الذي رحل قبل ثلاث سنوات حين كان عبدالرحمن النعيمي يستغرق في غيبوبة طويلة لم يفق منها سوى إلى الموت، فقد أبى قلبه أن يطاوعه هذه المرّة، حيث ظلّ مسجّى، مثل طفل حالم بغدٍ سعيد، لكنه لا يستطيع أن ينهض لاستقبال ضيوفه أو أن يمدّ يديه ليرحّب بزوّاره ولا يتمكن من أن ينظر إليهم، ومع ذلك فقد بقيت ابتسامته البريئة مرتسمة على شفتيه لم تفارقه أبداً، وربما كان يستمع إلينا وإلى أحاديثنا، ويحاول أن يكون سباقاً كعادته إلى فرحنا وحزننا، إلاّ أن دماغه لم يسعفه من الحركة، ليشاركنا.

لم يأتِه الموت إليه دفعة واحدة مثلما هي العادة، كما لم يأتِه مواجهة، بل تسلّل إليه واستوطن جسده وعاش معه ونضج فيه، بدرامية عالية، حيث كان يقضم روحه بالتدريج، وكانت رفيقة عمره السيدة مريم «أم أمل» تشهد ذلك، وتتألم بصمت وتقضم غيظها للقدر الغاشم، الذي نهش شريكها دون رحمة.

عندما لم يقوَ قلبه الكبير على حمل أثقال همومه، توقف بعد أن أرهقه التعب وطول الانتظار ومراوغة الموت، وكان هذا خَطبٌ جلل للبحرين التي ارتدت الحزن عنواناً للتقدير والاحترام والهيبة، لمن كان معه أو من كان ضدّه، فحتى خصومه، أوجعهم موته، لأن الجميع قدروا ما أصاب البحرين من خسارة وطنية كبيرة.

رحل النعيمي وهو في عزّ نضجه وحكمته، تلك التي نحتاج إليها، فقد علّمته السياسة وطول المعاناة وعمق التجارب: الصبر والتروّي وعدم الاندفاع وبُعد النظر، وهو ما انعكس على سلوكه ولغته التي اكتسبت معنى ودلالة وامتلاء.

رحل «أبو أمل» بعد أن حقق وعده بالتخلّي عن مواقعه القيادية، تلك التي يتصارع عليها الكثيرون، فقد ظلّ يدعو للتداولية والتناوبية، مثلما هي دعواته للعقلانية والمدنية والتحضّر والديمقراطية والمشاركة والمساواة والتنوّع والتعددية، لدرجة أن أكثر من جيلين في البحرين تربّوا على تلك الأطروحات التي كان دعا إليها هو ونخبة متميّزة من رفاقه وزملائه، وجاء الوقت المناسب ليختبروه، فسارع دون انتظار أو تبرير ليعلن ذلك، فلم تبهره المواقع أو المناصب في أي يوم من الأيام.

كأن النعيمي كان ينتظر أن تنتهي مرحلة الحزبية الضيقة التي سادت لعقود من الزمان ليرحل بعدها مطمئناً، فهذا العروبي، اليساري، الاشتراكي، كان تواصلياً وتفاعلياً مع محيطه اليساري، الديمقراطي، الإسلامي، ولم يفرّق في سنواته الأخيرة كثيراً بين الانتماءات المختلفة، بل كان يبحث عن القواسم المشتركة، معظّماً الجوامع الإنسانية، تلك التي تتشارك وتتجمع على الهم الوطني العام والموحّد، فقد كان نقطة جذب واستقطاب جامع، بملحمية خالدة، تتفجر مشاريع ومبادرات مستمرة.

لم يرتضِ لنفسه أن يكون «القائد» الدائم وكأنه زعيم قبيلة، فقرّر التنازل بهدوء، لينتقل إلى موقعه في القاعدة العريضة، ليقول رأيه ويقدم خبرته وعصارة فكره لزملائه وأصدقائه من «جمعية وعد» أو من القوى المتحالفة معها لا فرق لديه، مثلما كان يحاول أن يعرض وجهات نظره لدى المسئولين في الدولة وسبل الإصلاح الدستوري المنشود، وهو ما عبّر عنه في كتابه «موضوعات الإصلاح الدستوري».

لقد أبى عبدالرحمن النعيمي، وهو خير مثال لنا جميعاً، أن يتمترس في مواقعه، فأخلاها بكل أريحية وممنونية، وأتذكّر أنه قال لي في طرابلس في الثمانينات حين كنّا نحضر ندوة فكرية: «لعل في داخل كل منّا يقبع دكتاتور صغير... يا رجل»! وهو ما ذكرته يوم الاحتفال به عندما وقع صريعاً في الغيبوبة اللئيمة.

لقد ترك «أبوخالد» لنا منهجاً في التواضع الرفيع، فكان كلما ازداد علماً ازداد تواضعاً، وكلما تواضع أكثر سما فكراً وشأناً ومقاماً.

لقد غمّس النعيمي سلوكه الفكري والسياسي والثقافي بعمل الخير، مستدرجاً مكنونات الإفصاح والجمال في النفس الإنسانية التوّاقة إليه، وكان يمارس ذلك بتلقائية كبيرة غير متكلفة أو متباهية، أقرب إلى عملية خلق شفيفة لغنائية مبهرة وإيقاع راقٍ ورؤية سمحة مفتوحة.

كان النعيمي يوزّع اللؤلؤ البحريني الأصيل، ذات اليمين وذات اليسار، فهذا البحريني المتميز كان فلسطينياً بامتياز، بل مسكوناً بكل تضاريسها ومنعرجاتها، مثلما كان عربياً، لا فرق عنده بين البحرين وفلسطين، ومصر وسورية والعراق واليمن والمغرب والخليج كلّه دون استثناء ولبنان، كان عربياً من المحيط إلى الخليج، بصدق ومحبة، عابراً للإقليمية والقطرية والطوائفية والمناطقية وغيرها.

وأستطيع القول إن همّه كان أوسع من ذلك كثيراً، حيث كان إنسانياً يسبح في هذا الفضاء ويحلّق في سماواته البعيدة، ليس على صعيد الفكر حسب، بل على مستوى الممارسة الشخصية، مؤمناً إيماناً عميقاً بقيم التسامح والتعايش والتواصل، بين الحضارات والثقافات والأديان والأمم والشعوب، فمعاناة البشر لديه واحدة والاستغلال واحد، وقيم الحرية والعدالة واحدة أيضاً.

إنسانيته تلك ومعه نخبة متميّزة من مثقفي البحرين ومن اتجاهات متنوعة أخرجت البحرين من محليتها، إلى ساحتها العربية، ومنها إلى مساحاتها الكونية الواسعة، حيث كان عبدالرحمن النعيمي يحمل البحرين معه وفي قلبه إلى أصقاع الدنيا، وكأنه كلما كان يأتي على ذكر البحرين كان ينظر إلى من لم تصله لؤلؤة، علامة محبة وصداقة، لتذكّره بالبحرين دائماً.

كان الوطن بالنسبة له يعني الحرية والكرامة والعدالة والمساواة والجمال والعمران والتسامح والخير والتنمية، المهم ألا يتعرّض إنسان لانتهاك حقوقه سواءً على المستوى الجماعي أو الفردي، ولعلّه كرّس حياته لذلك، وكان أحد المبادرين الأوائل للتعاطي الإيجابي مع حملة الإصلاحات التي شهدتها البحرين بعد العام 2001، وعاد من منفاه، رافضاً أي امتيازات أو أفضليات، ضارباً «قوة مثل»عالية الرفعة، ستظل الأجيال تتحدث عنها.

وعلى رغم أنه واجه الموت مرّات عديدة وخرج من امتحانه ظافراً، في بيروت والمقاومة والسجن والمطاردات المختلفة، لكنه استسلم أخيراً مثل فراشة جميلة للضوء حين قرر الرحيل، فقد أعيته المراوغات الماكرة، وهكذا غادرنا بالابتسامة ذاتها التي طبعت صورته، بل وشخصيته قبل أن يدخل الغيبوبة وحتى وفاته.

رحل النعيمي ولكنه لم يرحل، لأنه ترك فينا الكثير الذي يذكّرنا به، ويبقي عليه مقيماً فينا ومعنا وبيننا: فكره وكلامه وكتاباته وسلوكه، والأهم من كل ذلك إنسانيته وتواضعه، ولعلّنا بهذه المناسبة السنوية سنحيي خالدنا «أبوخالد» الذي أحب الحياة وعمل من أجل أن تكون أحلى وأبهى وأكثر حرية وعدلاً وسلاماً، وهكذا نحتفل في حضرة الغياب لاستعادة جدارية الخلود.

إقرأ أيضا لـ "عبدالحسين شعبان"

العدد 3651 - الثلثاء 04 سبتمبر 2012م الموافق 17 شوال 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً