العدد 3681 - الخميس 04 أكتوبر 2012م الموافق 18 ذي القعدة 1433هـ

بين قلم الأديب وحبر السياسة!

عبدالحسين شعبان comments [at] alwasatnews.com

كاتب عراقي وحقوقي عربي

نجتمع في رحاب شخصيتين كبيرتين ومبدعتين، لنحيي ذكراهما ولنستعيد تقاليد الاحتفاء الرمزي بالمعرفة والجمال والتنوير والحرف والحق، ولم يخطر ببالي أن أكون متحدّثاً في جمع ثقافي متميّز يضم نخبة من الأدباء والكتّاب والفنانين والإعلاميين والحضور الكريم.

اعتقدت أنني سأكون مستمعاً لنقد وتقريض وتقويم ومراجعة لكتابين يتم الاحتفاء بصدور طبعتهما الجديدة في بغداد: الكتاب الأول عن شاعر العرب الأكبر الجواهري وهو بعنوان «جدل الشعر والحياة» والجواهري الذي صال وجال طيلة نحو قرن من الزمن، كان كلّ ما فيه يدلّ عليه مغضّن بالشعر والتناقض والتحدّي في هارموني عجيب أقرب إلى الاستثناء والفرادة. وقد ولد الجواهري قبل ولادة الدولة العراقية بعقدين من الزمان وكتب الشعر قبل كتابة دستورها الأول، ولا يمكن تدوين تاريخ القرن العشرين، ولاسيما فيما يتعلق بالأمر عراقياً وحتى عربياً من دون العودة إلى شعر الجواهري، دليلاً وشاهداً على نحو ثمانية عقود من الإبداع والتنوير والكفاح.

أما الثاني فهو عن المثقف والسياسي سعد صالح وهو بعنوان «الوسطية والفرصة الضائعة»، فقد جمع سعد صالح الإدارة والقانون وملّحهما بالشعر، وكان خطيباً ذرب اللسان وكاتباً متميّزاً. وعندما أصبح في العام 1946 وزيراً للداخلية لـ 97 يوماً في وزارة توفيق السويدي، أطلق حرية الصحافة وبيّض السجون وأجاز خمسة أحزاب سياسية بينها حزبان يساريان هما حزب الشعب لمؤسسه عزيز شريف وحزب الاتحاد الوطني لمؤسسه عبدالفتاح إبراهيم وعضو قيادته العليا الجواهري، وحزب الاستقلال (القومي العربي) برئاسة الشيخ محمد مهدي كبّه والحزب الوطني الديمقراطي برئاسة كامل الجادرجي، وحزب الأحرار الذي ترأسه توفيق السويدي، وكان سعد صالح نائباً له، ثم أصبح رئيسه بعد استقالة الوزارة.

ولعلّ ذلك كان جزءاً من مشروع سعد صالح المدني التنويري، فهو لم يكن معارضاً تقليدياً، فحسب، بل كان رجل دولة أيضاً، وعندما ينحاز للمعارضة لا ينسى موقعه كرجل دولة وعندما يكون في موقع المسئولية لا ينسى موقع المعارضة، وتلك جدلية يتجاور فيها الاختلاف والتناقض.

الجواهري وسعد صالح كتبا بقلم الأديب وإن سال من يراعهما حبر السياسة، وقد جمعتهما صداقة مديدة من موطن الصبا الأول في النجف إلى عالم فسيح يضجّ بالجديد ويتطلّع للتغيير ويرنو لتحقيق الحرية والعدالة.

في هذه الإضاءة السريعة التي هي من وحي المناسبة، يشعر المرء بالكثير من المسئولية الأخلاقية والأكاديمية، بل والإنسانية حين يتحدّث عن الإبداع والنقد، ولاسيما إذا توخّى الموضوعية والمهنية، وخصوصاً أن وظيفة المثقف الأساسية هي النقد. وإنْ كان النقد في أزمة هي الأكثر دقةً وحراجةً وخطورةً في هذه الأيام، لأنها تتراوح بين المجاملة والإجحاف وبين التأييد والتنديد، في حين أن ما نحتاج إليه هو التوازن والاعتدال والموضوعية، وأولاً وقبل كل شيء الإنصاف، ولاسيّما التحلّي بشروط المهنية والمعرفة وأصول النقد وقواعده.

ولعلّ مشروع القراءة النقدية، في المتن والهامش، الذي حاولنا تقديمه منذ عقدين من الزمن هو جزء من القراءة السسيوثقافية الفكرية الفلسفية لتاريخ المجتمع العراقي من خلال شخصيات إبداعية لها حضورها المائز.

ابتدأتُ هذه المحاولة بعدد من الأدباء بينهم وفي مقدمتهم المحتفى بهما وبالكتابين عنهما، وجمعتُ باقة من الأدباء والمثقفين مثل الروائي والصحافي شمران الياسري والباحث التراثي هادي العلوي والشاعر أحمد الصافي النجفي والشاعر عبدالأمير الحصيري والشاعر السيدمصطفى جمال الدين والأديب والصحافي روفائيل بطي وشعراء شعبيين مثل عبدالحسين أبوشبع وعباس ناجي وغيرهم.

كما ضمّت هذه السلسلة مفكرين مثل حسين جميل والسيدمحمد باقر الصدر، إضافة إلى أسماء سياسية لامعة، من العرب والكرد مثل عامر عبدالله وعبدالفتاح إبراهيم والجادرجي وفهد (يوسف سلمان يوسف) والبارزاني مصطفى وإبراهيم أحمد وطالب شبيب وخالد علي الصالح. وقد شملت أسماء عربية مثل الروائي السوداني الطيب صالح والمثقف السعودي عبدالعزيز التويجري والباحث والأديب الفلسطيني ناجي علّوش والفنانة السورية شيرين ميرزو وآخرين.

للاحتفاء دلالة مهمة، وهي أن البلد ليس كلّه مفخخات وقنابل وعنف وأناس يركضون إلى الموت بلا هدف، فمقابل ذلك هناك حياة ثقافية وإبداعية واستمرارية لروح المقاومة المدنية السلمية اللاعنفية، فتاريخنا المفعم بالحرارة الإنسانية والتمسك بأهداب الحرية ومواصلة التحدي مملوء بالعلماء والأدباء والمثقفين من سائر الاتجاهات والألوان، تعبيراً عن التعددية والتنوّع والتمايز، تلك التي طبعت المجتمع العراقي، وتلك عبرة من التاريخ ولمن يريد أن يعتبر، في الحاضر والمستقبل، حيث لا يمكن لأحد إلغاء الآخر أو إقصاءه أو تهميشه.

الجواهري وسعد صالح ولدا في رحاب الحوزة العلمية ودرسا فيها وعرفا فيها التمرد الأول أيضاً، حيث الجدل وأسئلة الشك واليقين وفلسفة الاختلاف وحرّية البحث، وحاول كلاهما الانتصار على الذات، من خلال النقد لكل ما حولهما من ترهات وظلامية وخنوع وعادات وتقاليد بالية، وكانا يتطلّعان إلى الجديد، الواعد، برؤية عصرية تقدمية.

كان قلق الجواهري عميقاً وهو القائل:

عجيبٌ أمرك الرجراج... لا جنفا وصددا

تضيق بعيشة رغدٍ... وتهوى العيشة الرغدا

ولا تقوى مصامدة... وتعشق كل من صمدا

لقد دلف الجواهري وصديقه سعد صالح في درب المدنية والعصرية والدفاع عن حقوق الإنسان، ولاسيّما في الدفاع عن الفقراء والمحرومين، فلم يركبا موجة أو يدعا الخدر يتسلل إلى ضميرهما، وبشغف ممزوج بالكبرياء، عاشا حياتهما واختطّا طريقهما في الكفاح عبر قلم الأديب وفي مداد السياسة.

تعاظم قلق سعد صالح حين اجتمع لديه الخاص بالعام وهو القائل في رثاء نفسه:

أبوارق الآمال والآلام... لوحي لعلّك تكشفين ظلامي

الجواهري وسعد صالح رجلان يفيضان بالحزن والإبداع وروح المقاومة والعراق في هارموني منسجم بجوار أضداده وتناقضاته الجميلة وتحدياته التي لا تعرف السكون! وكأن الجواهري لا يعبّر عن نفسه حين يقول:

أنا العراق لساني قلبه... ودمي فراته وكياني منه أشطارُ

إقرأ أيضا لـ "عبدالحسين شعبان"

العدد 3681 - الخميس 04 أكتوبر 2012م الموافق 18 ذي القعدة 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً