العدد 3688 - الخميس 11 أكتوبر 2012م الموافق 25 ذي القعدة 1433هـ

الصندوق الأسود

عبدالحسين شعبان comments [at] alwasatnews.com

كاتب عراقي وحقوقي عربي

ما إن أعلن عن تسليم الحكومة الموريتانية مدير المخابرات الليبي السابق عبدالله السنوسي إلى طرابلس، حتى بدأت التكهنات تزدحم والإشاعات تنتشر والأقاويل تتوافد عن خزينة الأسرار التي يملكها المسئول الليبي في نظام حكم العقيد القذافي، الذي رافقه لعقود عدّة من الزمان. فهو زوج أخته صفيّة القذافي، إضافة إلى أنه حامل أختامه وحافظ أسراره. ولا يتعلق الأمر بليبيا فحسب، بل إن حركته امتدّت خارجياً، إلى محيط ليبيا العربي والافريقي، فضلاً عن علاقاته الدولية، وقسم منها له علاقة ببعض حركات التحرر الوطني.

امتاز حكم القذافي الذي دام نحو 42 عاماً بالسرّية والغموض وغياب الشفافية والمساءلة، فضلاً عن عدم وجود مؤسسات، حيث تربّع هو بالتدريج فوق القانون ووضع نفسه فوق الدولة بحجة أنه «قائد الثورة»، من دون أن يكون له مسئولية مباشرة في هيكلية الدولة وتراتبيتها، علماً بأن جميع أجهزة الدولة الفعلية تأتمر بأوامره باعتباره قائداً لتنظيم شعبي، غير رسمي، تديره «لجان» تنبثق عن «مؤتمرات» يتم اختيار أعضائها وفقاً لمواصفات معينة، ولارتباطات القيادة العليا التي تخضع بالكامل للقائد، الزعيم، الذي يتمتع بصلاحيات مطلقة ينصاع لها الجميع، بموجب نظرية «الكتاب الأخضر» والمؤتمرات الشعبية في الصيغة الجماهيرية، والتي تُعرف بالنظرية الثالثة.

أجهز حكم القذافي الذي أسس ما عُرف لاحقاً بالجماهيرية، على مؤسسات الدولة ولاسيّما بعد نجاحه في قيادة ما سمّي بـ «ثورة الفاتح من سبتمبر»، لتحلّ محلها المؤتمرات الشعبية ومفوضوها وأمناؤها بالتدريج، حتى تلاشت مؤسسات الدولة الليبية، وكانت بداياتها حكماً لا مركزياً لثلاث مناطق، ثم دُمجت في مطلع الستينيات، لتتخذ الدولة شكلاً مركزياً بسيطاً، تحوّل في ظل حكم «العقيد» إلى حكم شمولي ودكتاتورية فردية.

وإذا كان الوضع العربي على رغم مراراته يتسم ببعض الجوانب المسلّية، فلعلّ نظام القذافي كان الأكثر كوميدية فيه، وخصوصاً غرابة تصرّفات الرجل وعيشه في الخيمة وطريقة ارتداء ملابسه وتصريحاته المثيرة. ولم يكتف القذافي بمخالفته كل ما هو سائد في ليبيا والتنكر لتاريخها وقوانينها ودستورها السابق، بل نقل حبّه للظهور، باعتباره مختلفاً وغريباً، من ليبيا إلى العالم. وهو الأمر الذي رافق زياراته الرسمية إلى بلدان العالم، بما فيها للأمم المتحدة، وإحراجه لكثير من البعثات الدبلوماسية والحكومات المضيفة والهيئات الدولية، لكن تلك الطريقة الهزلية في التعامل قابلتها جوانب أخرى محزنة، بل ودرامية، سواءً على صعيد ليبيا، ولاسيما في التعاطي مع المواطن وحقوقه المهدورة، أو على صعيد سياساته الخارجية العربية والدولية!

ولعلّ القضايا التي ينتظر العالم أن يسمع عنها بشغف منذ الإطاحة بالقذافي ونظامه كثيرة ومتعددة، وسيكون مثول السنوسي أمام القضاء العادل والعلني، فرصةً للاطلاع على خفايا وأسرار، سواءً تبريرات رسمية ليبية سابقة أو قصص وروايات مبرمجة سياسياً لمصالح غربية ذاتية وآنية، تبعاً لمصالح القوى الدولية المتنفّذة، وعبر صفقات لم يزح الستار عنها حتى الآن.

أولاً، قضية لوكربي. على رغم حسمها قضائياً عبر القضاء الدولي وتقديم تعويضات لأهالي الضحايا، وإطلاق سراح المقراحي، فإن الكثير من أهالي ضحايا طائرة «بان ام» غير مقتنعين بتلك الحلول ويريدون معرفة الحقيقة ويعتقدون بوجود صفقة ما، وثمة أسرار لابدّ أن السنوسي يمتلكها بخصوص الحادث وملابساته، وما قيل بشأن إطلاق سراح المقراحي.

ثانياً، ظلّت قضية تفجير طائرة «اليوتا» فوق النيجر وملابساتها غامضة، وهي لاتزال تثير فضول الإعلاميين والحقوقيين على حد سواء، ولاسيّما من ناحية معرفة الأسرار والكشف عن الحقيقة. وسيكون العالم كلّه آذاناً صاغية لمعرفة ما حدث بالفعل.

ثالثاً، اختفاء الإمام موسى الصدر وزميليه في العام 1978 الذين كانوا يزورون ليبيا بدعوة رسمية. ويقال إن السنوسي هو من طلب الحصول لهم على الفيزا الإيطالية وأمّنها، وهو ما يلقي بظلال من الشك بشأن اختفائهم ومصيرهم، على رغم أن السنوسي صرّح بعد اعتقاله بأن القذافي أمر بقتل الإمام موسى الصدر في رواية شكّك الكثير من المتابعين بتفاصيلها. وقد زار وفدٌ برئاسة وزير الخارجية اللبناني عدنان منصور موريتانيا، لكن لم يتم التوصل إلى شيء يذكر بشأن ملابسات الاختفاء القسري، علماً بأن أحمد رمضان المعروف بأنه اليد اليمنى للقذافي كشف عن أسماء بعض الأشخاص الذين يعتقد بأنهم نفّذوا عملية الغدر اللا أخلاقية بحق السيد الصدر. جديرٌ بالذكر أن رمضان شغل منصب القلم الخاص ومدير المعلومات لدى مكتب القذافي، وهو لايزال معتقلاً حتى الآن.

رابعاً، قضية اختفاء وزير خارجية ليبيا الأسبق منصور الكيخيا الذي كان يزور القاهرة لحضور مؤتمر نظمته المنظمة العربية لحقوق الإنسان في العام 1993، وملابسات ذلك مصرياً، ولاسيما أن الكثير قد قيل عن دور الأجهزة الأمنية المصرية في التواطؤ مع المخابرات الليبية عبر صفقة حكومية تجارية.

تردّد في السابق أسماء آخر من التقاهم الكيخيا، وفي مقدمتهم يوسف نجم، الليبي الذي قتل بعد فترة قصيرة في ظروف غامضة، وإبراهيم البشاري، ممثل ليبيا الأسبق في جامعة الدول العربية، الذي قيل إن له ضلعاً في الحادث، وهو الآخر قتل في حادث سيارة غامض في ليبيا بعد انتقاله إليها، وبعد مدّة ليست بعيدة عن الحادث. ولايزال الرأي العام الحقوقي يتطلع إلى إجلاء مصير الكيخيا.

خامساً، قضية مجزرة سجن أبوسليم التي راح ضحيتها نحو 1200 سجين، وثمة أسئلة كثيرة بشأنها لتحقيق العدالة الانتقالية في هذه المسألة وفي غيرها من القضايا التي شهدتها السجون والمعتقلات الليبية: فمن أصدر الأوامر؟ ومن قام بالتنفيذ؟ وكيف حصل الأمر ولاسيما دفن الجثث جماعياً؟ وكيف السبيل لإصلاح الأنظمة القانونية والقضائية والأجهزة الأمنية؟ وخصوصاً بعد كشف الحقيقة كاملةً واعتماد مبدأ المساءلة دون الانتقام أو الثأر، مع تعويض الضحايا وجبر الضرر.

سادساً، مجزرة الأكاديميين في الجامعات الليبية، وتدمير المعرفة والذوق والجمال والفن والأدب، وخصوصاً أجهزة التربية والتعليم. كل ذلك يحتاج إلى كشف الحقيقة كاملةً لمنع تكرار ما حدث. ثم ماذا بشأن ما قيل عن انتقامات القذافي الشخصية واستهدافه لمعاونيه وعوائلهم، بل وامتهان كراماتهم.

سابعاً، مسألة محاولة اغتيال خادم الحرمين عندما كان ولياً للعهد في العام 2003، وذلك ارتباطاً بدور المخابرات الخارجية والمهمات الدبلوماسية التي كان يمنحها لهم النظام السابق.

ثامناً، صفقة تمويل الحملة الانتخابية للرئيس الفرنسي السابق ساركوزي، وكذلك الصفقة التي رافقت حكم رئيس الوزراء البريطاني طوني بلير والتي أثيرت ضدّه لاحقاً، سواء بشأن لوكربي أو ما بعدها.

وإذا كان بعض المسئولين السابقين قد تحدثوا عن بعض أسرار نظام القذافي مثل نائبه عبدالسلام جلود وممثل ليبيا في الأمم المتحدة عبدالرحمن شلقم ومحمود جبريل المسئول لاحقاً في المعارضة وفي المجلس الانتقالي، فإن السنوسي سيكون لحديثه نكهة خاصة لأنه من المطبخ الداخلي الخاص السري للقذافي، وهو المشرف والمسئول والمنظم والمنفذ على مدى عقود من السنين لعمليات إرهابية داخلية وخارجية، وهو مطّلع على صفقات واتفاقيات وتواطؤات لقوى وشخصيات ليبية وعربية ودولية، فضلاً عن تجارة السلاح وأعمال ابتزاز وقتل وإرهاب وغير ذلك، بما فيها إساءات لسمعة المقاومة الفلسطينية.

وبغضّ النظر عن التنازع القضائي بشأن صلاحيات القضاء الدولي لمحاكمة السنوسي وطلب المحكمة الجنائية الدولية تسليمه إليها، ولاسيّما بوجود قرار أممي هو القرار 1973 وما تبعه من قرارات ملزمة، وشكوك المجتمع الدولي إزاء قدرة القضاء الليبي في ظروف الانفلات الأمني على القيام بالمهمة، ناهيكم عن الأجواء التي قد لا تتيح للمحكمة أو لمحامي الدفاع القيام بواجبه المهني والقانوني في محاكمة المتهمين أو الدفاع عنهم، وكذلك كفالة حقوقهم، بغض النظر عن تمسك القضاء الليبي أو الدولي كل منهما بولايته؟ بشأن المحاكمة، فلابدّ أن تتسم هذه المحاكمات بالمهنية والأجواء الطبيعية والشفافة والعلنية بحيث تكون درساً حقيقياً لتأمين احترام حقوق الإنسان مستقبلاً. فالسنوسي هو الصندوق الأسود الذي لابدّ من الاطلاع على محتوياته كاملة، خدمةً للحقيقة أولاً وللجيل الحالي وللأجيال القادمة.

إقرأ أيضا لـ "عبدالحسين شعبان"

العدد 3688 - الخميس 11 أكتوبر 2012م الموافق 25 ذي القعدة 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً