العدد 3698 - الأحد 21 أكتوبر 2012م الموافق 05 ذي الحجة 1433هـ

أزمة الإصغاء والأحياء الأموات

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

كل حماقة تبدر من أحدنا سببها الانفلات من الإصغاء. لا أحد يُصغي إلى أحد في هذا الضجيج الذي يكاد يَسِمُ هذا الكوكب. ليست الحماقات وحدها هي التي تتراكم، وتتراكم معها تبِعات قد تصل إلى الثأر والتصفيات في كثير من الأحيان. ندرة الإصغاء واحدة من الأخطاء والمثالب المبكّرة لدى الإنسان. الأرض التي هبط عليها منحته كائناتها وأجناسها فرصة أن يُنصتَ إليها. أن ينصت إلى الصمت من حوله. نعم، يحتاج كلٌّ منّا إلى أن يُصغي إلى الصمت من حوله. فرصة مثل تلك أهدرها الإنسان في مرحلة وجوده المبكّر، وبات عليه اليوم أن يدخل في العادة: عادة ألاّ يُصغي إلى أحد. أن يُصغي إلى نفسه فقط. نفسه التي لا تقول شيئاً في كثير من الأحيان.

الضجيج لم يعلّم الدنيا شيئاً. المُصْلحون في تاريخ العالم لم يكونوا أبناء ضجيج. كانوا أبناء إصغاء وأبناء تأمل وأبناء اتصال بالتي هي أجمل وأحسن. الفاشلون والذين هدّدوا ويهدّدون كل إنجاز بشري ذي قيمة وهدف وامتداد هم أبناء الضجيج وأبناء اللاشيء.

هذه المدنيّة في أرحم جوانبها وأبهى عطاءاتها لم تكُ وليدة ضجيج. الضجيج والصُراخ ومصادرة حق الآخر في أن يقدّم العالم في صورة تقديم نفسه، لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يُتيح للإنسان الدنوّ من إنجاز ذي قيمة. سيكون بمنأى عنه لأنه ملتصق بأناه... بصوته واستعداده وترصّده ونيّته أن يحتل كل شيء؛ بدءاً من الدول وليس انتهاءً بمساحة سواه في أن يشكو ويتذمّر ويحتج ويصرخ ويندد؛ أو أن يقول شعراً ولو في درجة صارخة في الرداءة!

الضجيجُ لا يُتيح للمرْء أدنى حكمة. الضجيج لا يقول شيئاً. يقول نفسه. يقول هذا الخليط من أصوات عالية من دون معنى ومن دون أية قيمة. لا اتصال ولا تواصل في هكذا زعيق.

ذلك الذي لا يألف إلا صوته لا يرى أحداً. ذلك الذي يرى في الإصغاء إهانة «لحكمته التي لا تنتهي!» يهين نفسه ويطعن الحكمة في مقتل بالتجرؤ عليها وادّعائها.

يمتدّ ذلك إلى اليوم. إلى حاضر عربي مُلتبس ولا شيء يدلّ عليه؛ ليطول كل شيء. تشعر بأنه لم ينضج بعد على رغم الامتداد في الزمن. الزمن الذي لم يتعلّم منه كثيرون سوى أن يكون جزءاً وشرطاً لوجودهم في المكان؛ باعتبارهم أحجاماً تشغل المكان.

وبالعودة إلى ندرة الإصغاء تحيلنا إلى تاريخ وأدب الاستبداد. لن تسمع إلا الصوت الواحد والنص الواحد والهيمنة التي تُحكم قبضتها وتكتم على كل نَفَس. الإصغاء في ذلك التاريخ الذي يرْشح إهانةً وتخلّفاً؛ ضرب من الترف وضرب من الرخاوة وعدم النضج بالنسبة إلى نماذج عرفها العالم؛ لكن منطقتنا وتاريخنا منذ مئات القرون تُصدّر تلك السُبّة والعار إلى ما وراء الحدود، وباتت مثلاً وشاهداً من الخزي الذي لن يتم محوه بمشروعات كرتونية هنا وإضاعة وقت هناك، وإمعان في اختراع طرق وأساليب في إهانة الإنسان هنالك.

لو أصغى القاتل لقتيله لما سال دم؛ لو أصغى الذين يديرون شئون الأمة للذين يرون في حيواتهم ووجودهم أرقاماً فحسب لما دخلنا في مساحة هدْر الدم والتخوين وإلصاق تهم الزندقة والخروج و «الفتن» بأساليب لا ترقى إلى طبيعة هذا العصر؛ ولما كستْ عالمنا أكثر من حلكة، طاقات أهلها قادرة ومؤهلة لأن تبدّدها ولا تمنحها فرْجة مرور.

الربيع العربي على رغم أنه بات أمراً قائماً وواقعاً لا يمكن التنصّل منه؛ مازالت بعض كهوف الإعلام العربي الذي لا يصغي سوى إلى نفسه ونص يُملى عليه، تستمرئ تصدّر ديباجة أسلوبها الخبري «ما يُسمّى». شيوع «ما يُسمّى» في لغة الخطاب الرسمي العربي دليل نفي للاصغاء وإدمان التقرير والكلام واتباع خريطة جاهزة، ولا يهمّ بعد ذلك إلى أين تؤدي بالمهتدين بها؛ إلى متاهات مفتوحة؛ أو جحيم له أول ولا علامة تدلّ على نهايته.

الربيع العربي في جانب من جوانبه أزمة إصغاء. إذا لم تُصغِ فمن الصعب أن تفهم. شرط الفهم والاستيعاب والتحرّك من بعدهما هو الإصغاء. كلمة هارب تونس زين العابدين بن علي «الآن فهمتكم» تكشف بَرِيّة شاسعة من نفي الإصغاء. الإصغاء كان غريباً؛ لذا من المنطق أن يكون الفهم والاستيعاب غريباً، ويأتي بعد أن يجتاح الطوفان من كان بإمكانهم أن يصغوا كي يفهموا ويستوعبوا ويبادروا في تبني رؤى ومواقف لن تنال من قيمتهم وكرامتهم حين يحرصون على إعلاء قيمة وكرامة الإنسان.

الفقر والاستلاب والهيمنة والسياسات المترنّحة التي يحكمها مزاج الليل وضجيج النهار، والامتهان الممنْهج لكرامة الإنسان، هي الأخرى نتائج لإصغاء مفقود، ولا موقع له على أجندة وخريطة الذين بيدهم كل ذلك.

وبقدر ما ان الضجيج الفارغ لا يصنع قيمة وأثراً؛ يظل الصمت الفارغ هو الآخر أحد أسباب تعطيل الحياة وتفرجاً على حركتها من دون مبادرة ومن دون إسهام يراكم فعلها وأثرها. وبين الاثنين يفتقد الإنسان حكمة أن يفعل بالقول ويقول فعلاً، وما يحصّن ويحمي كل ذلك هو موهبة إصغاء تمنح طرفها أكثر من حاسّة. أكثر من عين وعقل وأذن وتقليب كل ذلك واختباره وفحصه.

وحدهم الأموات الذين لا يُصغون. والأحياء الذين يشتركون مع الأموات في تعطّل تلك الحاسّة وتعطيلها هم أموات شاؤوا أم أبوا. لا أحد يمنح نفسه صفة من دون اتصال ومراجعة مع من هم في اشتراك معه في هذا العالم، والحيّز الذي يتحرك ويتفاعل ويُهيمن ويضعف فيه أيضاً.

في الاصغاء حيوية. الإصغاء يحييك. أن تصادر وتمنع وتحجب كأنك وكيل موت. موت الفهم والاستيعاب. كأنك تتآمر؛ بل أنت كذلك، على أعظم مبرّر وهدف ومغزى لـ «اقرأ» الأولى. اقرأ التي بالتأكيد لم يبدأ بها درس النور الأول كي يحجب أحدهم المغزى من ذلك الضوء. أن ينصت طرف إلى تلك القراءة. إنصات مثل ذاك سيغيّر وعياً ويغيّر ما يُظن أنه الثابت والمؤبّد والمُقيم وما لا طاقة أو قِبَل للإنسان على تجاوزه والتجرؤ على تغييره.

الإصغاء تجاوز لذاتك... التحام بذوات لا تُعدّ ولا تحصى؛ لكنها في نهاية المطاف، ذاتك التي تحترم وتقدّر وتكبر بها ومعها.

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 3698 - الأحد 21 أكتوبر 2012م الموافق 05 ذي الحجة 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 2 | 10:01 ص

      نور

      انا من اشد المعجبين بكتاباتك واقرا فقط بصمت واصغي لكتاباتك بصمت ايضا ولا اعلق ولكن لا يفوتني كتاباتك.

    • زائر 1 | 9:55 ص

      مئه في مئه !

      عندما يكون الضجيج هو الحل الامثل لهم بدل الاصغاء .....

اقرأ ايضاً