العدد 3712 - الأحد 04 نوفمبر 2012م الموافق 19 ذي الحجة 1433هـ

المدن المثالية ومقاومة الفقر

سهيلة آل صفر suhyla.alsafar [at] alwasatnews.com

كاتبة بحرينية

إن للفقر حتماً أسناناً ضارية تعض البشر وتغوص في أعماقهم وتسلب دواخلهم وتعري كل حقائق الحياة. واستمرارالفقر عبر الأجيال يبقى موجعاً جدّاً، وجحيماً يصعب تصديقه. ويبدو أن الفقراء مكبلون بالفقر ومنسيون، فلا يسمع أصواتهم أو يشعر بهم المتنعمون وأصحاب السعادة، طالما هم صامتون ولا يزعجون أحداً!

ومن الواضح أن أوضاعهم المأساوية لن تتحسن ولن تصل إلى أهدافها أو يُسمع صوتها إلا إذا عَلت الاحتجاجات، وتصاعدت للمطالبة بحقوقهم.

حكت لي إحدى الأمهات من اللواتي لازمهن الفقر طوال حياتهن كيف تمكنت بكفاحها المتواصل من قهر الفقر، قضت سنوات حياتها تقتر وتعيش على الكفاف، حتى ثياب عائلتها كانت تخيطها بنفسها. وكافحت طوال حياتها من أجل الخروج من تلك القرية البائسة شديدة الفقر، والبيت المتهالك الذي ربّت فيه أبناءها، وتمكّنت من تعليمهم تعليماً عالياً حتى تخرّجوا وحصلوا على الوظائف، وأصبحت فخورةً وسعيدةً بكفاحها وانتصارها. ولأول مرة تشعر بأنها غلبت الحياة في محاولتها لمقاومة الفقر.

وكانت تأمل الخروج من القرية، بعد وعودٍ من الدولة بالحصول على بيت عصري، لكن مع الأسف أن تلك الفرحة لم تدم طويلاً، حيث غدر بها الزمان وخسرت أحد أبنائها وترك البحرين آخر. وتم فصل اثنين من عمليهما، ولم ترَ البيت الموعود! وتراجعت كل أحلامها وهي على أبواب الشيخوخة والوهن ولا ترى نوراً يضيء لها الطريق. تقول بقلب يتفطر وعيون تملؤها الدموع: «ولكِ أن تتصوري الكابوس الذي أعيشه بعد كل تلك السنوات من الحرمان والتعب، أصل اليوم إلى طريقٍ مسدود وخسارة فلذات كبدي».

وتابعت بغصة: تفاعل أولادي مع الربيع العربي، وشاركوا الآخرين في المطالبة بحقوقهم المشروعة، فخسروا وظائفهم، وازددنا فقراً وبؤساً مضاعفاً، وفقدوا إخوتهم وأصدقاءهم وأشياء مادية من تكسير سياراتهم وسلب ممتلكاتٍ من البيت أثناء المداهمات أو المرور بنقاط التفتيش، والتي بذلنا الكثير لاقتنائها ولا نمتلك المال لتعويضها. ولم يعوضنا عنها أحد، ولا نزال نعيش في قريتنا وبيوتنا التي تفتقر إلى أبسط الخدمات في شوارعها الممزقة، وبنيتها التحتية المهترئة. ولا يصدق من يراها أنها من البحرين الحديثة التي لا يليق بها أن تكون قراها بهذا المستوى من التدني والإهمال... في الوقت الذي تمتد في البلاد أحدث المباني العصرية والشوارع والجسور العلوية الحديثة التي تجدد دوريّاً، فلماذا لا يطول بعض ذلك الرخاء تلك القرى المنسية التي يلفها النسيان والإهمال؟ أم أن من يعيش فيها هم نوعٌ آخر من البشر؟ بعد أن جاورنا الأجانب حتى في قرانا، وامتدت المباني الفاخرة (الكومباوندات) التي ينعمون فيها بكل الوسائل الترفيهية من برك سباحة وبحور، ضمن أحسن الأراضي، حتى البحور المجاورة لنا حجزوها بالأسوار العالية التي مُنعنا من الاقتراب منها بعد أن كانت مصدر غذائنا ورزقنا من صيد الأسماك، والمكان الوحيد الذي يسبح فيه أطفالنا ونرفّه فيه عن أنفسنا في الصيف القائظ. حتى ذلك الفرح القليل في حياتنا حرمنا منه أيضاً فلم نعد نرى حتى البحر! ولم يتبقَّ لنا شيء نتطلع إليه في أيامنا إلا بمعجزة من السماء تنتشلنا مما نحن فيه من ألم وعذاب.

إن الثورة النفطية وامتلاء خزائن الدولة كافٍ لرخاء جميع المواطنين لو كانت هناك عدالة في التوزيع، من الوظائف إلى السكن والأراضي، ومراقبة الاختلاسات والاستيلاء على الأراضي والأموال ومعاقبة المختلسين... هذا عدا عن عمليات التجنيس السياسي بالآلاف وما يتبعه من امتيازات في السكن وغيره، حتى بتنا نشعر بالخطر على وجودنا كمواطنين، فكيف يمكن أن نهدأ مع كل هذا الكم من الظلم والتجاوزات؟ وكيف لنا بالخروج من عنق الزجاجة؟ وما ذنب الأجيال القادمة لتتواصل معاناتها، وتعيش المظالم نفسها وهي ترى ثرواتها يُتلاعب بها من دون مساءلة!

هذه القصة مأساة إحدى النساء، وهناك المئات منها، علنا نحييها، ونعيد إليها بعضاً من كرامتها ونضالها المشرف في الحياة.

إقرأ أيضا لـ "سهيلة آل صفر"

العدد 3712 - الأحد 04 نوفمبر 2012م الموافق 19 ذي الحجة 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 2:41 ص

      حسن الظن بالله

      قال الشاعر : واًحسن الظن بمن قد عودك. أمسى بكم حسناً وسوى اًودك
      وربكم قد كان يكفيك الذي. قد كان بالأمس سيكفيك غدك
      وربكم قد كان يكفيك الذي

اقرأ ايضاً