العدد 3737 - الخميس 29 نوفمبر 2012م الموافق 15 محرم 1434هـ

دولة الخلاف أم دولة الخلافة؟

Common Ground comments [at] alwasatnews.com

خدمة Common Ground الإخبارية

يقول نبيل غورسيل (روائي/ ناقد تركي) في مقدمة روايته «صيف طويل في إسطنبول»... إن «المجتمع حين يكون في حالة تبدل قصوى يخلخل الأفكار ويصبح من المستحيل تجنب الإغراء، إغراء الراديكالية والتطرف، يجد الوجدان نفسه منجرفاً في قلب زلزال شديد، متناثراً شظايا، وإذا كانت الهزة الأرضية عنيفة جداً فمن يستطيع أن يزعم أن آلات رصدها لن تتوقف؟».

في الأسابيع الماضية مرت الذكرى الثالثة والعشرين للانقلاب العسكري في السودان بتدبير حزب الإخوان المسلمين، 30 يونيو 1989. مرت ذكرى الانقلاب هذا العام من غير ضجيج وهي تتوارى عن الأنظار خجلاً، وحيث إن بيضة العسكر لا تفقس إلا الخراب في كل مكان، قد يتساءل المرء على الأقل بتهكم: كيف لنظام بدأ بشعارات أخلاقية أن ينتهي إلى مآلات لا أخلاقية؟ يبدو أننا سنطرح أسئلة أكثر من أن نقدم أجوبة يغنينا عن ذلك فشل المشروع برمته.

هل يكفي الوازع الديني فقط ليكف الناس عن ارتكاب الأخطاء؟ هل حسن النية وسمو المقصد تكفيان لتبرير الأخطاء؟ ومن جهة أخرى هل أن سقوط المشروع الإسلاموي في السودان في المحصلة النهائية يمثل هزيمة ماحقة للعقل الاستيهامي غير المنجز إلا في تصوراته داخل اللغة؟

إن مبدأ الرصانة والوقار الزائف والورع المتكلف الذي هو غلاف النخبة الحاكمة (نظام الولع الأخلاقي) في محاولته لدفع المجتمع لقيم المثال ساق المجتمع بقدرة فائقة إلى قيم الضد تماماً. هل هذه هي الأخلاق في محاولتها لتنشئ مجتمع الفضيلة وليس الإنسان في محاولته أن ينشئ مجتمعاً أخلاقياً؟ أم أن ما حدث في السودان لا يعدو أن يكون إلا أحد مظاهر العقل الجمعي الارتكاسي، وأن المجتمع السوداني مازال يعتمد مبدأ الخطأ والصواب لاكتساب المعرفة غير آبه للتراث الحقوقي والعلمي الإنساني؟

إن الإنسان ومنذ خروجه من دائرة العوز الإنتاجي ومن ثم تجاوزه لمحدودية عمل يديه وتسخير الطبيعة لخدمته، بدأت تتمثل الحياة التي صنعها بنفسه أمام عينيه، وأخذ بنفسه يتغير في شكل قفزات كبيرة فاجأت أحياناً كثيرة محدودية تصوراته للمستقبل. كما أن المثول العيني لإنجازات البشر يعود بانعكاساته فيساهم مرةً أخرى في زيادة مدارك الإنسان في علاقته بالوجود المادي حوله ما يعني أن ما نصنعه بأيدينا من إنجازات مادية يعود فيؤثر فينا ويرتب صياغات جديدة وأكثر تطوراً ومنهجية لحياتنا، هذا لمن يتتبع ويقتفي آثار الإنسان عبر التاريخ وليس لمن يركض خلف المظان الايديولوجية.

إن الفكرة لا يمكن تمثلها مادياً إذا كانت محض نشاط ذهني لا واقعي ولا تتعدى حيز الدماغ الذي أنتجها، والفكرة عندما توضع على الأرض وتفشل في التوائم مع الواقع وتتبدد تصبح مجرد غبار ذهني، أو تنقلب ضد أهدافها المأمولة وتصبح معول تحطيم وبكامل فتوتها تهندس لتخريب واعٍ. إن السلطة الدينية للفكرة تنتخبها لتتجاوز المكان إلى المطلق واللامتناهي والعلوي وتحررها من مثولها الحسي لتصبح كائناً أثيرياً لا محدوداً، ومن هنا تبدأ في الهيام بلا واقعيتها وفي الانحراف للتأسيس لانفلاتها المريض. ثم تحل الفكرة مكان الذات بشروط الكائن الحي المعقد الخواص وتتقمص معتنقها فيحل فيه المثال هدف الفكرة، وتتمشي الفكرة بين الناس على قدمين لتعجل الوصول للتحقق، وفي سعيها المحموم تنظر إلى البعيد، إلى مدينتها الفاضلة حيث يبهر الضياء عينيها ولا تنظر إلى الأسفل حيث يجب أن ترصف المعبر الذي يؤدى إلى حلمها المقدس، مثل فراشة حمقاء تقع في سوء تقدير مصدر الوهج، وعندما تلتهم الفكرة الذات التي أنتجتها لا تتوقف عند هذا الحد وإنما تقوم بعملية إزاحة وإحلال قيمية (الفساد الايديولوجي/ فقه الضرورة).

لقد بدأ النظام حكمه بحشد الآلاف من كوادره لتسيير دولاب الدولة ليس بدعاوى الموالاة فقط ولكن لإيمانه الصادق بنزاهة وتجرد أفراد هيأهم ودربهم روحياً وتنظيمياً لإنجاز مشروعة المقدس، ويحلم منذ عقود بأن تؤول إليه السلطة لينفذ مشروعه وليدحض افتراءات العلمانيين بعدم إمكانية قيام سلطة دينية لأنها بحسب العلمانيين تفضي إلى العنف والفساد وتحمل جرثومة فنائها في داخلها (دولة الخِلاف وليست دولة الخلافة).

إن علاقة الإنسان الفرد بالآخرين أو حتى الأشياء تخضع لعوامل متعددة ومتحولة وشائكة ترجع لطبيعته منذ نشأته المبكرة والمؤثرات التي صاحبت نموه وصبغت تكوينه العقلي والعاطفي ثم تعليمه وتجربته الحياتية ومبادئه وأفكاره ونظرته الشاملة للحياة. كل ذلك وهذا الإنسان قابل للتحول والتبدل تتقاذفه الحياة أينما ذهب. كما أن الآخرين في تفردهم مختلفون عنه تماماً، عليه لا يمكن الركون إلى الفطنة وقوة الفراسة في تحديد ما يضمره من سلوك آنٍ أو مستقبلي، وعلى ضوئه نصبح مندفعين إلى وضعه موضع الثقة والأمانة.

إن الناس في حركتهم يجب التعامل معهم كمجاميع وليس كأفراد، والناس في تنوعهم مثل بصمات الأصابع لا يمكن أن تؤطر وتضبط حركة الأفراد ومعالجة اختلالات سلوكهم وتصنيف جدواهم الاجتماعية كلاً على حدة، أما كمجاميع فيمكن صياغة مرجعية ذات نفوذ تجريدي (نصوص القوانين) في علاقتها بالفرد. وفي عموميتها هذه تساوي بين أفراد المجتمع وتضعهم سواسية أمام منصة الاستحقاق وتتجاوز فروقهم العرقية والدينية والجغرافية وتحاسبهم أولاً وأخيراً كأناس. إن أي تغليب لسمات تميز (مفترضة جزماً) عرقية/ دينية/ جغرافية، تسعى لتفريد المجتمع وخلخلة تماسك بنيات شرائحه الاجتماعية التي عضدتها علاقات العمل والإنتاج والهجرات والتزاوج، تؤدي إلى تأليه الفرد وتميّزه بالصفات غير الواقعية التي تؤدي إلى هيمنة الشعور بالاستعلاء والتفوق واحتقار الآخر. لذلك العقيدة الاجتماعية (المدنية) هي من أهم سمات هوية المجتمع المتعدد الأعراق والأديان وهى ليست بديلاً للعقيدة الدينية، ولكنها في أبسط معانيها تسعى لمسّ جذور العصب المؤثر لوحدة وجدانية موضوعية تغذي نمو الخصائص المشتركة وتدفع بصراع الاختلاف إلى ميادين السلم.

إن «الضمير» كما يصطلح على تسميته الناس عامة في قصدهم لتوخي الاستقامة في الأعمال والمعاملات، هو مجرد افتراض ساذج، إن المجتمع «الأخلاقي» هو من يتسابق أفراده لإبراء ذممهم وللإفراط في النزاهة لأن الضمير الاجتماعي فيه نفذ من حيز التطبيق العياني إلى الحيز الطوعي. لتصبح بذلك النزاهة والتجرد في خدمة الوطن شارات نبل وشرف يتسابق لنيلها أفراد المجتمع، وعند ذلك فقط تصبح الاستقامة الاجتماعية ثقافة تتنفسها رئة المجتمع المدني الحديث.

إن الأخلاق قيمة متحولة ونسبية وإن كانت ضرورة أزلية وهى ساحة للصراع الفكري عبر التاريخ ترقى وتهبط ضمن حركة المجتمع في سبيل تدافع فئاته وشرائحه المتنوعة من أجل الوصول إلى أرقى قدر من الانسجام والتسامح لقضاء حوائجه الحياتية من دون اللجوء للعنف أو الطرائق المنحرفة للوصول لهذه الحوائج. وعندما يستقر المجتمع في علاقة حراك تبادلي سلمي لأمد طويل يصبح هذا الاستقرار نتاج تراكم درب وحكيم للخبرة الإنسانية في ترقيتها لتجارب الخطأ والصواب، وصولاً إلى أفضل الخيارات العلمية الحديثة لأسس التفاعل الاجتماعي كسقف لتجربة الحضارة الإنسانية منذ آلاف السنين والتي هي ملك لكل الإنسانية.

إن الإنسان منذ بدايات تخلقه الفكري وتطلعه ليقين ما ورائي ليوازن عجزه وقصوره في مواجهة قوى الطبيعة وتلبية حاجاته الحياتية، اكتشف مبدأ العقاب كرادع للشطط والجنوح الكامن في طبيعة الإنسان، وقد ساهمت الأديان في وضع الأسس المنظمة للعلاقات الاجتماعية. الرادع «الضميري» هو إما رادع ديني أو رادع ثقافي إنساني تربوي لا ديني، وتكاد حدود التماس معدومة بين الرادعين. الرادع الديني هو رادع غيبي يعزّز النزوع الإرادي للفرد لتخير سبل الخير والسلم والنزاهة دائماً لقضاء حوائجه، والرقابة هنا ليست رقابة اجتماعية، أي رقابة ماثلة حيزاً ووجوداً (قانون)، والعقاب هنا هو عقاب مؤجل والقصاص يمكن أن تسقطه التوبة (المعنى هنا الحق العام).

إذاً لا يمكنك أن تبني مجتمعاً على الأخلاق، ولكن بإمكانك أن تبني مجتمعاً أخلاقياً، لأن الأخلاق منتوج إنساني. يمكنك أن تبني مجتمعاً يراقب أخلاقه وينمّي ويطوّر أسس الحفاظ عليها بتدابير أرضية يمكن تطويرها باستمرار ومراجعة أوجه قصورها. إذ إن المجتمع بمؤسساته هو الضمير الأرضي الذي يراقب قصور أفراده ويصحح أخطاءهم، وعندما تثمر هذه المؤسسات أجيالها اللاحقين يصبح الضمير الاجتماعي مستبطناً داخل كل فرد من أفراد المجتمع، ويصبح الخضوع لمشيئة وقوانين المجتمع المدني ثقافة مطبوعة.

إن حسن النية وسلامة المقصد لا تعني إلا صاحبها فقط لأنها لا تقيه من الوقوع في الأخطاء. والوازع الضابط للسلوك في علاقة البشر اليومية يجب أن يصنعه البشر أنفسهم ويراقبون الخلل في تنفيذه ويخلقون المؤسسات المختصة بذلك، ولا يتركون الأمر لهوى الأفراد. إن الأشخاص الذين يخضعون سلوكهم لرقابة ضمائرهم هم قلائل، ولا يمكن أن تحس بوجودهم عادةً إذ إن هؤلاء الأشخاص نفسهم لا تكفيهم رقابة ضمائرهم من السقوط في الأخطاء غير المتعمدة، ولكنها ذات آثار وخيمة على المجتمع.

إذاً رقابة الضمير لا تكفي وحدها، ولكن التحديد الدقيق للمسئولية واليقظة العامة يمكن أن تتلافى الأخطاء الفردية قبل وقوعها، فالضمير هنا حاضر دائماً لحماً ودماً وعقابه غير مؤجل، وبالمقابل منبه بيولوجي داخل كل فرد مسئول ينظر حوله دائماً ويراجع خطواته قبل موضعها.

التدين مورد محفز للقيم والاستقامة، بينما الفرد في ذاته قيمة متحولة ونزوية ومن منطلق الملكية والنرجسية يغدو نهباً لظنون الكمال والتسيّد حالما يحل فيه الضمير الايديولوجي التبريري على رغم أن كل امرئ خطاء بطريقته الخاصة، بما في ذلك من يدّعون أنهم أكثر الناس طهراً وتقوى. ولا يعتمد الأمر على ما يظنه المرء خطأ أو صواباً، إنّما على مدى إيمانه بما يفعل، فكثير من الناس يقترفون ما يظنون أنه لا تشوبه شائبة، بينما يرى الآخرون أنهم مغرقون في الأخطاء، هذا على رغم أن الجميع يردون من منبع قيمي واحد، لأن القيم والمثل والشرائع التي تشكل الضمير السلوكي في حالة هؤلاء تصبح ملكية شخصية يسقط عليها الفرد دوافعه المواربة.

إقرأ أيضا لـ "Common Ground"

العدد 3737 - الخميس 29 نوفمبر 2012م الموافق 15 محرم 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 3:22 ص

      مقال رائع ) ولكنه ليس لشعب البحرين

      لربما كان من افضل المقالات التي نشرتها الوسط

اقرأ ايضاً