العدد 3808 - الجمعة 08 فبراير 2013م الموافق 27 ربيع الاول 1434هـ

محمد جابر الأنصاري ومفهوم الدولة المدنية (5)

محمد نعمان جلال comments [at] alwasatnews.com

سفير مصر الأسبق في الصين

قام الإسلام على عدة مبادئ تمثل ركائز مهمة لبناء الدولة، محورها أن الدولة الإسلامية هي دولة مدنية، أي يحكمها بشر لمصلحة بشر. وقام الإسلام منذ البداية على مفهوم الدولة المدنية وعلى احترام الوطن وحبه.

وعرف الإسلام الدولة المدنية في «صحيفة المدينة» التي أصدرها النبي محمد (ص)، كما عرفها القرآن في آيات عديدة. كما عرف النبي (ص) أن النشاط الاقتصادي، والحياة المعاصرة في زمنه لهما أحكامهما وقوانينهما، عندما قال «أنتم أعلم بشؤون دنياكم». وفي رد النبي (ص) على أحد الصحابة، وهو الحباب بن المنذر، في اختيار مكان غزوتي بدر وخيبر، بناءً على سؤال الحباب: يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل؟ أمنزلٌ أنزلك الله إياه، ليس لنا أن نتقدمه أو نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فقال: «بل هو الرأي والحرب والمكيدة»، فنصح الصحابي بمكان آخر وأخذ النبي (ص) برأيه.

وفي الحرص على النفس البشرية، قال (ص) «إن الله بعث محمداً هادياً ولم يبعثه جابياً»، في إشارة إلى مفهوم الجزية، ونحو ذلك في التأكيد على السماحة ورفض دعوة بعض أصحابه لقتل المخالفين في الرأي مادام بعيداً عن التشكيك المتعمد في صحيح العقيدة. انظر قوله (ص): «لا أريد أن يقال أن محمداً يقتل أصحابه»، في إقرارٍ بحق الاختلاف وتأكيد على السماحة المحمدية.

وفي مجال احترام الإسلام لمفهوم الوطن وأهميته، تناولت ذلك عدة آيات قرآنية وأحاديث نبوية شريفة، منها عندما أقسم الله بمكة «لا أُقْسِمُ بهذا الْبَلَدِ. وأَنتَ حِلٌّ بهذا البلَدِ» (البلد، 2). وعندما خاطب مكة عند الهجرة: «والله إنكِ لأحبّ البلاد إلىّ، ولولا أن أهلك أخرجوني ما خرجت». أما بعد فتح مكة وشعور بعض الأنصار بالقلق والخشية من أن يتركهم النبي ليقيم في مكة مسقط رأسه الذي يحبه، ولكنه عاد معهم إلى المدينة اعترافاً بفضلهم، وتثبيتاً لإيمانهم، وتأكيداً على أن الإسلام لا يفرّق بين أبنائه.

وأكد النبي محمد (ص) سمو النفس البشرية واحترام قدسيتها عندما ذكر في حديث له «إن حرمة الإنسان أكبر من حرمة الكعبة».

الأنصاري والدولة المدنية

يمكن الرجوع إلى مختلف مؤلفات محمد جابر الأنصاري لنجد فيها تعبيراً عن الدولة المدنية بصورة أو بأخرى، ولكن هناك تركيزاً أكبر في ستة كتب هي:

«رؤية قرآنية للمتغيرات الدولية وشواغل الفكر بين الإسلام والعصر»، «الناصرية بمنظور نقدي»، «الفكر العربي وصراع الأضداد»، «تجديد النهضة باكتشاف الذات ونقدها»، «مساءلة الهزيمة»، «العرب والسياسة أين الخلل؟».

هذه المؤلفات تقدّم لنا عناصر الدولة المدنية في فكر الأنصاري، ونشير بإيجازٍ لبعضها وبتفصيل أكبر للبعض الآخر، وخصوصاً كتاب «رؤية قرآنية للمتغيرات الدولية» لأنه أكثر اتصالاً وبصورة مباشرة مع موضوعنا.

أولاً: الأفكار الرئيسية للأنصاري بالنسبة للدولة المدنية يمكن القول أن هذه الأفكار تتمثل في «المنهج النقدي للسياسة والفكر»، ولبعض المفاهيم الدينية السائدة للوصول للحقيقة. هذا المنهج النقدي تحدث عنه مفكر إسلامي عظيم هو أبو حامد الغزالي رغم اختلاف وجهات النظر بشأن فكره وظرفه وسلوكه تجاه الحاكم العباسي آنذاك، ولكنني أعتقد أن كتابه «المنقذ من الضلال» الذي أوضح فيه منهج الهداية لديه، هو أساس الفكر النقدي، بل إن الفكر النقدي هو أساس القرآن الكريم ذاته، فالجدال بين الله وإبليس، الله وإبراهيم، المسلمين والرسول، وسيدنا عيسى والحواريين، نوح وقومه... من الأمور التي ذكرها القرآن الكريم، ومن ذلك قوله تعالى: «قالوا يا نُوحُ قد جادلتنا فأَكْثَرْتَ جدالَنا فأْتِنا بما تعِدُنا إِن كُنتَ من الصادقين» (هود، 32).

ومصطلح الجدال في القرآن يعني التحاور من أجل الوصول للحقيقة، وليس المناكفة كما يحدث الآن في بعض المنتديات، ويستخدم القرآن أيضاً مصطلح التحاور «قد سمِع اللهُ قولَ التي تُجادلُك في زوجِها وتشتكي إِلَى اللهِ والهُ يسمعُ تحاوُرَكما إِنَّ الهَا سميعٌ بصيرٌ» (المجادلة،1).

استخدام المنطق الجدلي في النقد منهج قرآني في جوهره، رغم أن المفكر والعالم الفرنسي ديكارت هو أول من طوّره وبلوره وقدّمه للعالم المعاصر، واعتبر أساس العلم الحديث. ونجد أن كتاب «صراع الأضداد» يقدم نموذجاً من هذه النماذج بتطبيق المنطق الجدلي Dialectic على السياسة والتاريخ والواقع العملي للبلاد الإسلامية والحضارة الإسلامية.

والاعتماد على المعرفة الدينية كأحد المداخل لفهم التطورات والتغيرات الحديثة، فالقرآن الكريم كتاب هداية وليس كتاباً مرجعياً في الطب أو السياسة أو الفلك. ولكن هناك بعض المفاهيم العامة الكلية وإشارات تتعلق بكل شيء تقريباً، ولذلك جاء في القرآن «ما فرَّطنا في الكتابِ من شيءٍ» (الأنعام، 38).

إنه يعني المفاهيم الكلية للحياة والنشاط البشري، ولا يهتم بالتفاصيل التي على البشر أن يتوصلوا إليها بعقولهم. إنه يؤمن بمبدأ الصراع بين البشر والشعوب كأساس للتطور مصداقاً لقوله تعالى «ولولا دفعُ الهِو الناسَ بعضَهُم ببعضٍ لفسدتِ الأرضُ ولكنَّ الهَل ذو فضلٍ على العالمين» (البقرة، 251) .ومبدأ العقاب للدول والنظم عندما يعم الفساد «وكذ?لك أَخذُ ربِّكَ إِذا أَخذ القرى? وهي ظالمةٌ إِنَّ أَخذَهُ أَليمٌ شديدٌ» (هود، 102). ومنهج التحذير قبل العقاب وعدم رجعية العقاب «وما كُنَّا مُعذِّبين حتّى نبعثَ رسُولاً» (الإسراء، 17).

ومن هنا نجد المفارقة في الثورات الحديثة التي تطالب بمعاقبة أفعال سبقت قيامها وكان مسموحاً بها في زمنها. إن هذا يتناقض مع المبدأ الإسلامي الصحيح ومع القانون الوضعي أيضاً، فلا عقوبة إلا بنص، ولا رجعية للقوانين.

اعتبار الثقافة الدينية والتاريخ السياسي والحضاري للبشرية هما أساس ومرجعية الإنسان: وقد حلل الأنصاري في كتابه «رؤية قرآنية...»، بعمق ودقة هذه القضية، حيث أكّد أن التطور والتقدم من مسئولية البشر وفقاً لقوانين عدة، وأهمها النقد الذاتي والتبصير والإدراك استناداً لقوله تعالى «وفي الأَرضِ آَياتٌ للموقنين. وفي أَنفسِكُم أَفلا تُبْصرون» (الذاريات، 20-21)؛ «قَد خلت من قَبلِكُم سُنَنٌ فسيرُوا في الأَرضِ فانظروا كيف كان عاقبةُ المكذّبين» (آل عمران، 137). النظر للأمم السابقة والاعتبار بما فعلوه وبما لحق بهم من مصير... وهذا كله مرجعية أساسية للأنصاري.

إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"

العدد 3808 - الجمعة 08 فبراير 2013م الموافق 27 ربيع الاول 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 4:54 ص

      الزمن والتطور

      نستطيع أن نكتب عن التاريخ ما نشأ وكيفما نشأ ولكن الفواصل الزمنية المتلاحقة بين مستويات ودرجات التطور لا يمكن محوها كما أن هناك بون شاسع في مضمون ومكونات أنماط والإدارة والحكم والتسلط التي لا تتماثل مطلقاً من الناحية الحقوقية والقانونية والتي تفتقر إلى أبسط مقومات تلك الحقوق والتي تعكس أيضاً كفاح الإنسان ونضاله ومعاناته عبر العقود المظلمة من تاريخ البشرية .. س.د..مع التحية

اقرأ ايضاً