العدد 3815 - الجمعة 15 فبراير 2013م الموافق 04 ربيع الثاني 1434هـ

ليست أسئلة...

الزمان يتسرب...

على سطح منزلنا القديم، في «صندقة» حمام صغيرة، وقع في يدي ذكر حمام تائه، جذبه الدفء والحبوب، وربما صحبة أبناء جنسه. أثارني وجود هذا الطائر الغريب ساكناً في غير داره. أمسكته لأبدأ معه طقوس تعذيب وحشية، انتزعت ريشات جناحيه، واحدة تلو الأخرى، ثم رميته خارج العش الخشبي الكبير حين وثقت أنه عاجز عن الطيران. في آخر دراما الانتقام غير المبرر من الطائر الصغير، حملت مقلاعي أرميه بالحجارة حتى تعبت، وتركته.

بعد أيام، نما ريش ذكر الحمام الغريب، ثم اختفى فيما كانت عيناي تمسحان المكان بحثاً عنه... لم أعبأ، لماذا أعبأ أصلاً...؟

لماذا؟

كل شيء في الوجود يدور في فلك السؤال، كما لو أنه أبلغ الأسرار وأكثرها غوراً في ملكوت الله.

لماذا دخل الطائر في «صندقة» الحمام؟ لماذا أمسكت به؟ لماذا عذبته؟

سؤال بطاقة بذرة، سرعان ما تتحول إلى شجرة عملاقة تتفرع منها كل الأسئلة... يكفي فقط أن تقذف به في الأرض، لتدهشك قدراته على النمو والتناسخ والوثوب، أما الإجابة فلا تنتظرها من كائن لم يرتشف من ماء الحكمة، الألم.

فالسؤال ابن العجز، والألم أب الإجابة...

ولماذا... هو السؤال الذي لا تسد نهمه كل الإجابات، وكلما برزت إجابة، تلاها... لماذا؟

الأرواح المعذبة لا تعرف السكون حتى يحق انتقام السماء، لاذ ذكر الحمام بالفرار، وبقت روحه تطاردني، حتى في أحلامي، هل كان رسالة سماوية أم مجرد طائر شقي؟

الزمان يتسرب، وجدت نفسي متنقلاً عبر حجراته، متحسّساً نبض طائر مجهول لم أكن أملك سبباً واحداً لتحويله إلى دمية مسكونة بروح الشقاء، ثم وجدتني فجأة في هوة من الزمن، من دون عينيين، مُقاداً في متاهة من الأبواب الخشبية، كما لو كان «لصندقة الحمام» روح تطاردني هي الأخرى، لتثأر لطائر عُذب في حضرتها.

أمام أول باب، عليك نزع عينيك، يستبدلونها بقطعة قماش داكنة. تائه أصبحت بين لونين، عتمة قاتلة وبياض باهرٍ، وفي الحالين لم يعد لعينيك جدوى، لتنفتح بتلقائية مُرة عينا قلبك وأبواب عمرك معاً...

منذ اللحظة الأولى عليك أن تقتنع بتحولك إلى مجرد عينين معصوبتين، حتى الجدار لن تتمكن من تحسّسه ويديك موثوقتين بالحديد أو البلاستيك، لا فرق, فكلاهما يقفل معصميك، لكي لا تتحسس الجدار...!

لماذا؟

الآن ستعطي وزناً للسؤال مهما بدا عبثيّاً، إن كان ديْناً قديماً أو ثمناً باهظاً لقناعتك أنك طائر من حقه التحليق!

كل الأسئلة تتناسخ، وهي تترى في حاضنة من الكراهية غير المبررة حولك... لماذا؟ متى؟ من؟ كم؟ كيف؟

انتفضت حواسي وأنا أدير الأسئلة في رأسي، للكشف عن كلمات تليق بإجابة، وكلها أسئلة لا إجابات لها، فالسؤال لا يُزرع في أذنيك عن جهل، بل لخلق دافع، يقنع المحقق باطمئنان أنك متهم، وضعيف وستعاقب... ولكن لماذا؟ وحدك أمام وحشية السؤال...

أُثقل جسدي بالتعب في حضرة الكراهية، اختفى الهواء من رئتيي في فوضى الانتقام، وتكاثرت في روحي الأسئلة في بحث عسير عن الخلاص...!

أدخلوني في العنبر، رُفعت العصابة، اخترت أقرب ملاذ، القيت بجسدي الخائر في أحضانه...

كان سريراً حديدياً من طابقين...

السطح السفلي للسرير الأعلى، كان مصبوغاً باللون الأسود ببشاعة لافتة، ثمة نقاط بيضاء متناثرة، كنجوم متباعدة في بساط سماء من مساء حزين، كنت ألامس في سكون حدود النقاط البيضاء، وأتساءل ما عساها تكون؟! أصباغ بيضاء أم بقايا صمغ ملتصق أسفل السرير؟ لا أعرف كم مضى من الوقت وأنا شارد بأفكاري، محدق في لوح الخشب الذي كان سماء سريري. جفلت فجأة، هناك من يطلبني، قفزت من السرير في فزع، بالكاد وصلت حدود باب الزنزانة، حتى رأيتهم يستهدفون زنزانتي حيث أقف داخل العنبر، ألقى عليّ رجل نظرة تغلي بنار الكراهية، أكانت تلك عينيه وهو يفترس وجهي بأنياب نظراته، أم بقايا بندقية المساء؟ ثار نبضي على ما كان ساكناً في داخلي. أمضيتُ بالكاد ساعات أجهل كم تكون من الاعتقال، أتعقب في كل لحظة خيط الأمل مهما بدا ضعيفاً أو متهالكاً. وجه أراه لأول مرة في حياتي، كما لو كان رسالة القدر العاجلة، هنا ستتعرف على كل ما لم تعرفه في حياتك، بما فيها تلك النظرة المشتعلة، سألني في غضب أقابله للمرة الأولى في حياتي:

- هل ترى نفسك بطلاً...؟

لم يمهلني أي وقت للتفكير في إجابة. توهمت أنه يلقي سؤالاً ما!! سقطت مني نظرة إلى الأرض وحين ارتقت تبحث عن وجهه، كان كفه يطبع على وجهي تحية عسكري، جاء خصيصاً ليفصح عن مكنون مشاعره تجاه رجل يلتقيه للمرة الأولى. لم أكد أكشف عن المزيد من إجابات تجمعت حول فمي لما حسبته سؤالاً يبحث عن إجابة، حتى قذفني في الزنزانة، بقيت في حوار صامت مع الجدار، والإجهاد يتحرك في مفاصلي:

- لا لستُ بطلاً، أنا طائر يحلم بالتحليق.

واقفاً، أرمي إجابة ما على حسبته سؤالاً في وجه الجدار. لا تفعل الجدران أكثر من ابتلاع الإجابات، بقيت متصلباً لنحو ساعة، ثم اقتنعت أخيراً بوصايا زملاء العنبر بالجلوس، ألقيت بجسدي على السرير، تكورت في مكاني كجنين في بطن أمه، حتى شعرت ببرتقالة تتحرك عند قدمي، وضعها أحد المعتقلين في زنزانتي وغادر.

زحف المساء، بدأت الأفكار تتآكل. وزعوا طعام العشاء، كنت في الزنزانة رقم ثلاثة، وحدي، مع ثلاثة أسرّة حديدية من طابقين، حين انتهى العشاء، كانت أعداد المعتقلين تتزايد.

قصص مختلفة تدخل من باب العنبر الكبير لتجد حولها أفواهاً مفتوحة على السرد، وآذاناً تصغي لكل مفارقة مهما بدت مضحكة، كنا أربعة فقط في الصباح، ثم امتلأ العنبر مساءً، انزويت، أمسح بعيني تفاصيل الجدران، هنا تُبتلع الصرخات ويكوّم اللحم البشري. كم روحاً عبرت في هذا المكان وكم روحاً أوشكت أن تختصر طريق الخلاص، وكم جسداً لامس كل الزوايا دامياً، في لهاث القبض على الهواء.

أغمضت عيناي، ولا أعلم إن كانت غفوة أم رحلة كالبرق في دهاليز البياض، يتحرك مقبض باب العنبر، لاهث جديد، قطع المسافة في العتمة ليجد نفسه أمام عزلة باب من الفولاذ، يوزع النظرات الخائرة، بابتسامة معجونة بماء الوجل، يستقبله أحد الزملاء، يقدم له كوباً من الماء، ثم يبدأ معه جلسة استجواب أخرى، أحاول تركيب معالم وجهه في ذاكرتي. أعرف هذه القسمات، إبراهيم!!!

كيف؟ لماذا؟ متى؟

عانقته وإلحاح الأسئلة يخنقني.

- ما الذي قذف بك خارج حدود التاريخ والجغرافية؟ ديْن قديم لطائر معذب أم وسم انتقام طبعه أحدهم في جسدك؟

إبراهيم هذا، لا ينطق قبل أن تتشكل في وجه ابتسامة، وتندى من فمه ضحكة ساخرة:

- بل صورة في هاتف!

في التحقيق، تحضر إبراهيم للدفع بكل الإجابات، لتوهمه أن هناك من سيصغي، أو يكترث بتبريراته، ولم يخطر بباله وهو يسلك طريقه لمركز التحقيق، أن المحقق لا يعبأ للاستجواب ولا للحقيقة، برغم ذلك لم يبتلع صديقي سؤالاً لازمه منذ اللحظة الأولى لاستقباله اتصالاً من مركز التحقيق... «لماذا؟».

لاحقه السؤال إلى أن عبر نفق عصابة العين، وبلغ الضفة الأخرى من الجحيم في العنبر حين التقينا.

- «لماذا؟»

نضبط متلبسين بالحلم، ثم نبحث في كل زاوية أو فراغ، داخل نيران عصابة العين عن إجابة تسد نهمنا للمعرفة... لماذا نُقلنا خارج دائرة الزمن؟ ولماذا على أجسادنا أن تتحمل جوع الجلادين لطبع أوسامهم عليها؟

لم يكد إبراهيم يكمل تقديم عرض خارطة أسئلته، حتى وفد من بعده آخر.

انتصف المساء، لا هدوء يعرفه هذا المكان، وتلك الصرخات تخترق الجدران، ومقبض باب العنبر يتواطأ مع الجلادين، وقع خطوات تقترب، المقبض يعلن صرخته المستفزة وهو يصدم الطرف الآخر من الباب الفولاذي، لاهث آخر أم فرج؟ لا هذا ولا ذاك، كان صوتاً يقطر منه الغضب والوحشية، هزّ جدران العنبر، طلبني كما لو كان متحفزاً للقاء جديد، قفزت من السرير، دنوت من الباب، أشار إليّ بالخروج، وضع العصابة البيضاء حول عينيي، والقيد الحديدي في يدي. جرني من ملابسي طوال المسافة إلى حيث حفلة متجددة من التنكيل والعبث بالإنسانية. رجفة تسري في جسدي، أضغط على قدميي لتثبتان من دون جدوى، خلف العصابة المحكمة كانت عيناي مغلقتان، تائهتان في عزلة الظلام،لأي سبب ومن دونه، كلما أجبت على سؤال لا إجابة له، كان الأنبوب المطاطي ينزل على ظهري، ليطبع في ذاكرتي وسماً آخر.

انفصلت روحي عن جسدي للحظات، بدأت أحدق في ذلك الكائن الذي يقف أمامهم مقيداً، معصوب العينيين... سألتهم: ماذا تريدون؟ هززت أجسادهم: توقفوا!!!

عدت إلى تلبس جسدي مرة أخرى: افتح يديك؟ جاء الأمر موجهاً لروحي لا ليدي، كانوا يطلبون مني إيداع لحظة من الخوف فيها، فتحت يدي، أجبرني أحدهم على غلقها وفي جوفها سلك من المطاط:

- سوف تتعرف الآن على مذاق الكهرباء حين تسري في جسدك...

آخر صورة حملتها ذاكرتي قبل أن ألج في الغيبوبة كانت لذكر الحمام، وهو يتجنب حجارة مقلاعي...!

الأرواح المعذبة، لا تسكن حتى تحين لحظة خلاصها...!

العدد 3815 - الجمعة 15 فبراير 2013م الموافق 04 ربيع الثاني 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً