العدد 3843 - الجمعة 15 مارس 2013م الموافق 03 جمادى الأولى 1434هـ

هل العقل دليل على وجود العقل؟

العراق - محمد جواد آل ياسين 

15 مارس 2013

شدني عنوان الكتاب «كيف نرى العقل؟ أين نرى العقل؟» في طبعته الثانية المنقحة والمزيدة، وشدتني وأدهشتني مقدمة الكتاب للمفكر العربي الكبير علي محمد فخرو، التي يقول فيها ما نصه: «الأخ الصديق، الشاعر الدبلوماسي والمؤرخ محمد حسن كمال الدين، أشفقت عليه، عندما ظننت لأول وهلة أنه يحاول خلط عوالم الشعر بعوالم الفلسفة والدين، فلكل من العوالم الثلاثة منطلقاته وأساليبه ومقاصده الخاصة به، ومحاولة جمعها لن يكون سهلاً».

ثم يواصل فخرو قائلاً: «لكنني كنت مخطئاً، إذ استطاع محمد حسن أن يوجد أرضية مشتركة تتمثل في تربع العقل والفكر والتدبر، وما يصاحبها من ذاكرة وخيال، وتصورات ذهنية على عروش تلك العوالم، فيوحدها في كينونة الإنسان، ولقد أسعفته قدراته الثقافية واللغوية على تبيان وتبسيط ذلك للقارئ العادي، والذي أحسب أنه الهدف الرئيسي من تأليف هذا الكتاب».

أما باقي المقدمة الرائعة فأتركها لمن يطلع على هذا الكتاب، الصغير في حجمه، والكبير في معانيه وتأثيره، لأنتقل مباشرة إلى أبواب الكتاب، فحكمة الكتاب تقول: «ويل لأمة عاقلها أبكم وقويها أعمى»، حكمة صارخة اختارها المؤلف الذي يطرح في مقدمته أسئلة تحمل قلقاً نعذره عليه، والأسئلة تحوي ومضات من الفكر المضيء، لكنها لا تخلو من صراعات وخوف متناهٍ من حالة تغييب العقلانية.

فمؤلف الكتاب يكشف عن عقلية فلسفية، تذكرنا بالغزالي والكندي وابن رشد والفارابي وابن خلدون، كما تذكرنا ببعض الفلاسفة الغربيين، أمثال سقراط وأفلاطون وأرسطو وديكارت وجان جاك روسو، ذلك حين يطرح سؤالاً فلسفياً على درجة عالية من الوعي الإدراكي: «هل العقل دليل على وجود العقل؟».

وبعد حديث المؤلف عن «الكون ورأس الإنسان»، و«العقل في اللغة»، و«العقل عند الحكماء والشعراء»، و«كيف نرى العقل؟»، و«العقل عند الفلاسفة»، ينتقل إلى الجدلية الفلسفية «بين القدرية والعقل»، وبعد أن يقدم لنا في هذا الفصل وجبة ساخنة عن ماهية العقل، وماهية الفكر، وما تحويان من ملكة الاستدلال الصحيح، والقدرة على الاستنباط، وكذلك القدرة على كشف الأسباب الجوهرية للأشياء والأمور، يأخذنا المؤلف بأسلوب رشيق، إلى حركة الإدراك عند الإنسان، بمساعدة الفكر، ثم إلى منهجية قيام الفكر بوظائف، من خلال الآلية الفسيولوجية والمادية، ليبرهن في نهاية المطاف على أن «العقل دليل على وجود العقل».

ولعل أبلغ ما توصل إليه المؤلف عن العقل وعن الدولة العقلانية، قوله بأسلوب فلسفي من نوع السهل الممتنع، حين يقول في الفقرة التالية التي أنقلها نصاً: «حين يتجرد العقل من ظلمات الجهل والخرافة والبلاهة، يكون قادراً على صياغة الحياة، وإعادة صياغتها على أسس من العدل، وتعظيم الحرية، حتى يمهد الطريق لانقراض المظالم والآلام». فالعقل عند المؤلف هو القادر على خلق دولة عقلانية، وليست فوضوية، دولة خاضعة للعلم ومبادئ الحرية والمساواة. وعنده أن الدولة العقلانية هي القادرة على صياغة وإعادة صياغة مبدأ «الديمقراطية»، ليكون سلاحاً في وجه الاستبداد السياسي، وفي وجه الفساد البيروقراطي بكل أشكاله، فلا حرية من دون دولة عقلانية، ولا مساواة من دون دولة عقلانية، ولا حياة طبيعية من دون دولة عقلانية.

وفي نظرة تأملية إلى عموم الكتاب، الذي يحوي شيئاً من الدين والسياسة، بجانب الفلسفة، نلتفت بصورة واضحة إلى تركيز المؤلف على «العقل»، الذي يرى فيه عقلين، «عقلاً نظرياً وعقلاً عملياً»، حيث يجمعهما الجانب التأملي الإيجابي، وتفرقهما النتائج السلبية.

أما حديثه عن العقل الفعال، فيتساءل المؤلف مرة أخرى: هل العقل عقلان؟ عقل يحمله الإنسان العادي، وعقل يحمله العبقري؟، وعند وصول المؤلف إلى ما تحويه كثير من الآيات القرآنية، من حض متواصل على استعمال العقل، يجنح إلى العلاقات السببية بين العقل وبين الأحداث الكونية أو الإنسانية التي وردت في تلك الآيات، ما ساعده على الإجابة عن كثير من الأسئلة التي طرحها على نفسه.

ولعل ظاهرة محمد حسن كمال الدين، التي تصلنا من أرض الخلود «أرض دلمون الطاهرة»، هي تعبير عن أصالة الإنسان العربي، وتطور معرفته، وتشكلها الكلي على مبادئ المعارف الإنسانية، ومع ابتعاد المؤلف عن العدمية واللاعقلانية، تمكن هذا الفيلسوف البحريني، بشيء من اليسر من الإمساك بالطابع الجدلي للعلاقات العقلية والإنسانية المتداخلة، ويظهر ذلك أكثر وضوحاً في فصل «هكذا وجدت العقل»، حيث طرح مئة فكرة فلسفية، أكاد أبصر من خلالها عصارة فكر خلاق، على درجة عالية من الاطلاع، أسوق هنا مثالين على رؤية هذا الفيلسوف لعقل الإنسان حيث يقول: «أرى العقل في تيقنه أن الاستعمال السليم للحرية، هو شكل من أشكال الكمال عند الإنسان»، ثم يقول في موضع آخر: «أجد العقل في قدرته على إعادة هيكلة الفكر التربوي، والفكر التنموي، والفكر السياسي، من أجل تقدم المعرفة العقلية، التي تقيم دولة العدل والحرية، ودولة الرفاه والمساواة».

هذا الكتاب، في رأينا المتواضع، يحمل المعنى الواسع للتفكير التأملي، حيث يذكرنا بعصور التنوير التي حمل شعلتها الكثير من الفلاسفة، أمثال سقراط وأفلاطون، والكندي وابن رشد وابن سينا وغيرهم، وأكاد أحسب المؤلف يحمل على كتفيه معظم القوانين الموضوعية التي يراها هو طريقاً عقلانياً للتصالح بين اللاهوتية العقلانية، والعلمانية العقلانية.

وهذا الكتاب ظاهرة جديدة من التأليف المتزن، لعلها تعيد للإنسان العربي شيئاً من رشده الذي يفتقر إليه في وقتنا هذا، وخصوصاً أن الأمة العربية والإسلامية تمران بمنعطفات بالغة الخطورة من تاريخهما، نتمنى أن يتداركها العقلاء من أبنائها.

العدد 3843 - الجمعة 15 مارس 2013م الموافق 03 جمادى الأولى 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً