العدد 3843 - الجمعة 15 مارس 2013م الموافق 03 جمادى الأولى 1434هـ

غريب «أغمات» المعتمد ابن عباد ملك إشبيلية

المنامة - سيدعدنان الموسوي 

15 مارس 2013

«صنع الريح من الماء زرد...»، دشن هذا البيت فاتحة لأجمل قصص الحب في الأندلس وكانت الصدفة الجميلة والقدر هما اللذان وضعا الحسناء اعتماد الروميكية على طريق محمد ابن عباد ملك مدينة إشبيلية أكثر مدن الأندلس ثراء وقوة وشهرة وقد شاءت الأقدار تلكؤ ابن عمار صديق الأمير عن الرد المنتظر... لم يطل الأمر كثيراً حتى أجابت الجارية التي تغسل الثياب عند النهر بالقول: «أي درعٍ لقتالٍ قد جمد» كانت سرعة البديهية والقريحة سببين في دخول الحسناء اعتماد قلب الأمير ابن عباد وبلغ من شغفة بها أن أعتقها من سيدها وتزوجها كانت تلك الفترة إبان حكم ملوك الطوائف بالأندلس والتي تلت سقوط آخر الخلفاء وانفراط عقد الخلافة الأموية في الأندلس إلى قرابة العشرين مملكة صغيرة متناثرة لم تحيد عن طبعها الأصيل حتى في غربتها وأعني هنا الأضداد والمشاحنات والحروب، القوى منها كابن عباد ملك إشبيلية يريد الغلبة لنفسه والاستئثار بكل شيء. ولو جمعت تلك الممالك شملها في اتحاد قومي عسكري واقتصادي في مواجهة ملوك قشتالة الذين لا يكفون عن الإغارة على الممالك العربية، وبعد أن كانت حصينة منذ أن وحدها عبدالرحمن الداخل، لربما بقيت حتى الساعة. لكن للأسف الشديد على العكس من ذلك جعلت تلك الممالك من التسابق واستجداء نصرة الأسبان في مواجهة بعضها البعض هدفاً مشروعاً للجميع، فاستغلهم الآخرون أبشع استغلال وكبلوهم بالضرائب ما أعاق حركة التقدم والبناء القائمة من جانب، وألب عليهم العامة ودفعهم للبحث عن أقرب السبل للتخلص منهم من جانب آخر. فبلغوا من الضعة أن أدرك الإسبان أن لا سبيل لإنهاك هذه الممالك سوى تكبيلهم بالمزيد من الضرائب. ولعل ما حدث في الربيع العربي الذي بدأ العام 2010 وربما عن غير قصد تكراراً للأمر نفسه ولكن من جوانب مختلفة فارتفاع أسعار الغداء والكماليات والخدمات القادمة من وراء البحار بدءاً من العام 2007 في مواكبة الزيادة في أسعار البترول هو السبب الرئيسي في عجز موازنة كثير من الدول الفقيرة والتراجع عن الإيفاء بواجباتها الأساسية نحو المواطنين. فارتفعت أصوات الفقراء في تونس ومصر واليمن ونجحت في إسقاط نظام بن علي ومبارك والقذافي مع فارق بسيط أن ارتفاع الأسعار العام 2010 كان سبباً في البلد المصِدر (البائع) ونتيجة لتداعي الأحوال المالية في البلد المستوِرد (المشتري).

ولو أسست الدول العربية أنظمة لدعم برامج الاكتفاء الذاتي منذ وقت بعيد لكانت أقل حاجة من الاستدانة من الخارج كملاذ أخير كما حصل في مصر بعد إسقاط نظام مبارك.

بالعودة إلى ممالك الأندلس لم يكن أمامهم من حل سوى الاستعانة ببني جلدتهم من جيوش المرابطين في المغرب تحت إمرة يوسف ابن تاشفين لوقف التهديد الإسباني المتزايد. وهكذا كان لنصرة المرابطين في معركة الزلاقة بالغ الأثر في هزم جيوش الإسبان وردهم على أعقابهم ولكن إلى حين, عاد بعدها الإسبان إلى سابق عهدهم فعاود العرب الاستعانة بالمرابطين مجدداً الذين ذهبوا هذه المرة إلى أكثر من نصرتهم ضد جيوش الإسبان بل في الاستيلاء على تلك الممالك واحدة بعد الأخرى لاعتقادهم أنهم ليسوا أهلاً لحكم المسلمين والذود عنهم. وهكذا طردوا الولاة ونكلوا بهم بين قتيل وشريد ووضعوا خاتمة لملوك الطوائف وقيام حكم المرابطين الذين استقبلهم العامة استقبال الفاتحين.

هذا السيناريو يحاكى من قريب مسلسل ملوك الطوائف في الأندلس، لقد كان التناحر والحروب والمشاحنات والانغماس في اللهو هو الجانب المظلم للممالك العربية آنذاك. أما الجانب المشرق فهو اهتمامهم بالعلوم والمعارف في كل المجالات العلمية والثقافية والاجتماعية والسياسية. وهكذا نجحوا في ترسيخ الأسس المتينة لقيام دول ذات حضارة متقدمة في وقت كانت فيه أوروبا تغط في عصر الظلام.

أما الجانب الاجتماعي والدرامي لتلك الحقبة فقد ألبسها المسلسل نكهة خاصة جداً ومميزة تجلت بوضوح في تزايد مطالب العامة بإصلاح الأوضاع الاقتصادية المتردية والتي لم يملك الولاة والملوك سبيلاً إلى حلها. وعند المقارنة بين ماضي الأندلس وحاضرة بغداد إلى وقت قريب تحديداً العام 2003، حينها لم يملك العراق قرار نفسه بالخلاص من أزمة الحظر الاقتصادي والعزلة السياسية والتي انتهت باستصدار أميركا قراراً من مجلس الأمن تحت ذريعة إزالة أسلحة الدمار الشامل. وكانت النتيجة غزو العراق وهدم بناه التحتية وإدخاله لاحقاً في أتون السيارات المفخخة في الأماكن العامة والأسواق والمساجد وصولاً إلى تصفية الكوادر الدينية والفنية والعلمية التي بناها العراق بالمال والدم.

وقد مضى على الغزو الأميركي للعراق أكثر من تسعة أعوام من دون أن نرى أية بوادر للانفراج السياسي بعد أن أدخلوا البلاد في نفق الطائفية المقيتة والتي لم يجنِ منها العباد سوى التخلف والدمار وعودة العراق عشرات السنين إلى الوراء، إضافة إلى إزهاق أرواح آلاف العراقيين الأبرياء. أما أسلحة الدمار الشامل «بيت القصيد» فقد اتضح أنها على رأى أحد المعلقين السياسيين «طلعت فشوش». فما أشبة اليوم بالبارحة ونحن نرى المباني تهد على رؤوس أصحابها في سورية ويسخر المال العربي وهو مدخرات الأجيال القادمة في حروب دون طائل كالحرب الإيرانية العراقية وحروب الخليج اللاحقة وآخرها الحرب على سورية مهد الحضارات وآخر الحصون المنيعة لقرابة عامين.

وعند اقتراب بوادر الحل السياسي تدخلت المقاتلات الإسرائيلية لتدحض كل المساعي الداعية إلى الحلول السلمية والجلوس إلى طاولة المفاوضات «وعلى عينك يا تاجر».

هكذا حال العرب لا نتعلم العبر والدروس ونكرر الأخطاء مرة بعد مرة فالضرائب الفاحشة على مملكة إشبيلية والممالك الأخرى وما يقابلها اليوم من الحظر المالي والاقتصادي والسياسي جعلت رقاب العرب وقراراتهم السياسية وغيرها في أيدي الغير.

بالعودة إلى ابن عباد أتت الضرائب الفاحشة على كل درهم في بيت المال وعجلت بزوال ملكة بعد أن تعالت عليه أصوات العامة بسبب الغلو في الترف والصرف على البذخ والملذات.

إلا أن حال ابن عباد ملك إشبيلية لم يكن في مثل حال صدام حسين فقد بقى يذود عن مملكته حتى آخر لحظة فبعد أن بلغه أمر المرابطين وقدومهم للاستيلاء على مملكة إشبيلية رفض الاستسلام خلاف أمراء الممالك الأخرى. وزاد في الأمر أن خرج لقتالهم في ساحة القصر هو وابنه وكان يافعاً وكانوا في قوة كبيرة فقتلوا ابنه في الحال فاستسلم لهم بعد أن أمنوه هو وأسرته. وكان ابنه الأكبر والياً على إحدى المدن الأخرى وعلم من أمر أبيه فخرج لهم مستسلماً فقتلوه وادعوا أن الأمر خطاً. فخاطبهم المعتمد غاضباً: «أهذا أمانكم أم هي سنن الأولين أولها دعوة وآخرها ملك».

أما المعتمد ابن عباد فاقتادوه أسيراً مع زوجته وابنتيه بشكل مذل ومهين أمام رعيته وخاصته أعقبتها رحلة عذاب مريرة وطويلة وشاقة ومذلة على ظهر الحمير من طنجة في المغرب. انتهوا به إلى منزل أقرب إلى بيت الدواب في جنوب البلاد في منطقة تدعى أغمات لتبدأ رحلة عذابات جديدة أخرى قاسمته زوجته وابنتاه كل أنواع الذل والمهان في بيت أقرب إلى السجن تحت الإقامة الجبرية عانى فيه وابنتيه صلف العيش بعد أن اعتادوا حياة الترف والقصور.

هكذا كان حال المعتمد ابن عباد الذي شال تركة أبيه بل جلها فطالت اللعنة السوداء صديق عمره ابن عمار وابنيه الراضي والفتح وصولاً إلى بيع إحدى بناته في سوق الرقيق وختاماً زوجته وحبيبته الوفية اعتماد التي قاسمته سعادته وبؤسه وماتت ليتجرع ألم فراقها. ثم تبعها بعد حين ودفن إلى جوارها في المنفى.

من يدري فلعلها عن دون قصد قد وضعت لهذه الخاتمة المأساوية معنى في الشق الثاني من البيت حين لقائها الأول بالمعتمد عند النهر ولعلها عنت: كيف السبيل إلى مقارعة لعنة متقلبة الوجوه والغايات؟ ومتى يقي الدرع من آفة خفية تستوحي الخطوب والأزمات؟ عندما قالت: «أي درع لقتال قد جمد...!».

العدد 3843 - الجمعة 15 مارس 2013م الموافق 03 جمادى الأولى 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً