العدد 3878 - الجمعة 19 أبريل 2013م الموافق 08 جمادى الآخرة 1434هـ

هوية دلمون: مرحلة التأسيس

ذكرنا في الفصل السابق أن اسم دلمون كان يتنقل فيرتبط في كل حقبة زمنية بأرض معينة؛ هذه الحقيقة العلمية، التي سلم بها الباحثون في تاريخ البحرين والخليج العربي، أدت إلى بلورة فكرة أن دلمون، من المرجح، «أنها تحدد بكونها إقليماً أو بلاداً واسعة» (التركي 2008، ص 107). فقد تم ترجيح أن دلمون في الألف الرابع قبل الميلاد تشمل جنوب العراق وتمتد إلى شرق الجزيرة العربية وربما تشمل عمان أيضاً، وفي الألف الثالث أصبح شرق الجزيرة العربية مركز دلمون، وفي الفترة الأكدية المبكرة أصبحت البحرين مركز دلمون، ومع نهاية فترة سلالة أور الثالثة كانت دلمون امتدت شمالاً إلى أن ضمت إليها جزيرة فيلكا، وخلال الفترة الكاشية أصبحت فيلكا مركز دلمون؛ وهكذا فإن دلمون هي إقليم انتقل مركزه من مكان إلى آخر بحسب الحقبة الزمنية والظروف المواتية (التركي 2008، ص 107).

حتى وإن صحت هذه النظرية، فإن وحدة الاسم لا تعني بالضرورة وحدة الثقافة ووحدة الهوية؛ بمعنى أن الهويات الحضارية التي تأسست في المناطق الجغرافية التي عرفت باسم «إقليم دلمون» تختلف عن بعضها بعضاً. فلكل حضارة بصمة تميزها؛ ويعتبر الفخار بمثابة «البصمة المميزة» لهوية الحضارة، وهو بمثابة «البصمة الجينية» التي تميز جماعة معينة؛ يقول «بيبي» في كتابه «البحث عن دلمون» «لقد أُطلق على كسر الفخار اسم أبجدية عالم الآثار... فمنذ 6000 سنة قام البشر بحرق الفخار ومنذ ذلك التاريخ وحتى الآن فإن أيّاً من المجتمعات في العالم لم يقم بصنع الفخار على نحو صنعه مجتمع آخر». (بيبي 1985: ص 104).

التطبق الآثاري وتعاقب الهويات

درس «بيبي» التطبق الآثاري وصنف الفخار الذي عثر عليه في كل طبقة، وقد لاحظ تغيراً في أنواع الفخار في كل طبقة آثارية، وصنف بيبي ذلك التغير في الفخار إلى نوعين، تغير تطوري وتغير جذري. التغير التطوري هو التغير الذي لوحظ في الطبقات السفلى أي مرحلة التأسيس، فقد لاحظ بيبي أن الفخار الذي يوجد في طبقة التأسيس تطور في المراحل التي تليه حتى وصل إلى مرحلة النضج (بيبي 1985: ص 203 - 204)، وهذا النوع من التغير يدل على نمو الهوية الحضارية للجماعة المؤسسة (بيبي 1985: ص 210 - 211). أما «التغير الجذري» فقد لوحظ في المراحل التي تلت «التغير التطوري» حيث إن الفخار تغير جذريّاً، «في لون الطين وفي شكل الآنية، والذي يقود إلى الاعتقاد بوجود تغير سكاني كامل» (بيبي 1985: ص 203).

من خلال دراسة الطبقات الآثارية في البحرين يمكن الاستنتاج أنه في الحقب الزمنية القديمة للبحرين حدث تعاقب للهويات المسيطرة سياسيّاً على البحرين، وقد بدأت بالجماعة المؤسسة التي فرضت فخارها وهويتها؛ ثم تعاقبت بعد ذلك جماعات أخرى، وافدة في الغالب. وقد كانت كل جماعة تسيطر سياسيّاً على الأرض تقوم بفرض ثقافتها وإيقاف تقدم الثقافة السابقة لها. لم تكن في تلك الحقب «وسائل إعلام» تسيطر عليها الجماعة المسيطرة على السلطة لتتحكم في نوعية الثقافة التي ستنشر، ولكن تعتبر الأختام ونوعية الفخار بمثابة الهوية الحضارية للثقافة حيث تميزت كل ثقافة بنوعية أختام معينة ونوعية فخار خاص بها؛ وعليه فإن عملية الإقصاء الثقافي للثقافة القديمة تتم بوقف استخدام أو تصنيع أختام وفخار تلك الثقافة وإحلال أختام فخار من طرز مختلفة تحمل هوية جديدة.

وعن طريق دراسة التغير في نوعية الأختام والفخار في الطبقات الأثرية تم إثبات وجود تعاقب لثقافات سادت جزر البحرين. وعلى رغم وجود هذا التعاقب في الثقافات، منها ثقافات أصيلة وثقافات وافدة، فإن اسم الحقبة أو اسم المكان لم يتغير وهو «دلمون»؛ هذا الخلط بين اسم المكان واسم الثقافة يوهم القارئ بعدم وجود أية جماعة أصلية قامت بتكوين حضارة على أرض البحرين قديماً وكل ما لدينا هي جماعات وافدة.

بدء التأسيس للحضارة في البحرين

بدأ استقرار شعوب معينة على جزر البحرين قرابة 2300 ق. م. حيث أسست جماعة صغيرة في موقع قلعة البحرين قرية صغيرة عبارة عن مجموعة من البيوت المبنية من الحجر. تمثل هذه القرية أقدم طبقة في موقع قلعة البحرين حيث أطلق عليها اسم «المدينة الأولى».

وقد قسم بيبي المدينة الأولى إلى طبقتين، الطبقة القديمة، وهي مرحلة التأسيس، ثم تلتها مرحلة بداية النضج (بيبي 1985: ص 210 - 211). أما Larsen فيسمي مرحلة التأسيس هذه باسم حقبة «ما قبل باربار» (Larsen 1983, p. 217)، وحدد عمرها التقديري بين 2300 و2200 ق. م. (Larsen 1983, p. 78). وقد أسفرت التنقيبات في هذه الطبقة عن عدد من قطع الفخار منها ما هو محلي المنشأ ومنها ما هو مستورد. فأما الفخار المستورد فيعود إلى كل من حضارة وادي الرافدين وموقع تيبة يحيى في إيران بالإضافة إلى فخار أم النار (Larsen 1983, p. 222). أما الفخار المحلي فقد تم تطويره محليّاً من قبل الجماعة المؤسسة للمدينة الأولى، وقد عرف باسم «chain-ridged ware»، أي «الأواني ذات الحواف (أو العصابات) الناتئة بشكل السلسلة». وتتميز هذه الأواني بأنها عندما يتم الانتهاء من تصنيعها تتم إضافة عصابات أو أشرطة طينية أفقية دائرية تحيط بالآنية وتكون تلك العصابات متوازية أفقيّاً تبدأ من أعلى الآنية الفخارية حتى أسفلها، وتتخذ هذه العصابات شكل السلسلة، ومن هنا جاء اسمها. وفي بعض الأحيان تكون تلك النتوءات مدببة أو حادة.

الخلاصة، أن الجماعة التي ابتكرت «الفخار ذا الحواف الناتئة بشكل السلسلة» هي التي أسست الحضارة الأولى في البحرين، لكن، من هي هذه الجماعة؟ وما هي الظروف التي ساعدتها على بناء هوية مستقلة لها؟... يتبع.

العدد 3878 - الجمعة 19 أبريل 2013م الموافق 08 جمادى الآخرة 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً