العدد 3920 - الجمعة 31 مايو 2013م الموافق 21 رجب 1434هـ

كسل الشعوب

منصور القطري comments [at] alwasatnews.com

كاتب سعودي

الدعابة والسخرية هما من أحب طرق النقد وأقربها إلى نفوس الناس في هذه المرحلة، بل لعلهما تمثلان السلوة والعزاء وسط كومة التخلف التي نعاني منها في هذا الواقع المعاش. وإن كان ثمة تحفظ على المبالغة في استخدام النتائج الخطيرة لبعض الدراسات التي يكون موضوعها ظواهر ذات صلة بشعوب المنطقة ليقتصر ذلك في دائرة التهكم فقط.

ومن بين تلك الدراسات الدراسة التي قامت بها مجلة لانسيت The Lancet البريطانية الطبية على 20 شعباً يعاني أفرادها من الكسل المؤدي إلى الموت (طبقاً لأرقام منظمة الصحة العالمية). وتذهب نتائج الدراسة التي أعدها فريق بحث دولي من جامعة تينيسي واعتمد فيها على معطيات السنوات الـ 10 الأخيرة حول النشاط البدني الذي يبذله سكان مختلف دول العالم، إلى أن الشعوب المستهدفة بالدراسة تعاني من عدم ممارسة أفرادها لأي نشاط بدني مثل المشي أو العمل اليدوي، ما يؤدي لإصابتهم بأمراض مزمنة.

والذي يهمنا في هذه النتائج أن المملكة العربية السعودية احتلت المركز الثالث على مستوى العالم بين الدول الأكثر كسلاً وذلك بنسبة 68,2 %؛ كما تصدرت المملكة أيضاً قائمة الدول العربية الأكثر كسلاً! بينما احتلت الكويت المركز السادس بنسبة 64,5 %.

بالتأكيد لم يفاجأ أحدا بعدم وجود اليابان أو كوريا الجنوبية أو سنغافورة...إلخ، ضمن هذه القائمة؛ وذلك لما عرف عن شعوب هذه الدول من تقديسٍ للعمل وتبنٍ لشعارات رائعة تحثّ عليه، منها على سبيل المثال لا الحصر (يكفيك أن تنام أربع ساعات؛ فإذا نمت الخامسة فمعناه الفشل)، بل والعمل بهذه الشعارات أيضاً. وقد أرجعت الدراسة السبب في كسل بعض الشعوب إلى أسباب متعددة، من بينها اعتماد نسبة كبيرة منها على التكنولوجيا، وأن أفراد هذه الشعوب لا يوجد لديهم الميل للقيام بأي جهد بدني. أما وجود دول الخليج العربي ضمن القائمة فهو أمر طبيعي ومتوقع. وقد فسرت الدراسة سبب تراجع صحة الخليجيين بابتعادهم عن العمل خارج المكاتب وميلهم للأعمال الإدارية؛ حيث يعاني العديد منهم، بسبب قلة الحركة، من أمراض مزمنة على رأسها «السكري».

هذه الدراسة تعطي مؤشراً للخمول الذي تعيشه مجتمعات تلك الدول إلى درجة أغرت بعض الأجانب بالتهكم بجسارة على هذا الخمول؛ فهذه أوبرا وينفري، الإعلامية الأميركية التي تقدّم برنامجاً حوارياً يتابعه يومياً أكثر من 30 مليون مشاهد، والتي صدر عنها في إحدى حلقاته اتهام للشعب الكويتي بالكسل بلغة لا تخلو من التعميم قائلة: «المصريون هم من يبني مساكن الكويتيين، والهنود هم من يكنس شوارعهم، والفلبينيون يربون أولادهم، والاندونيسيون يحضرون طعامهم، والاميركيون يتولون الدفاع عنهم، بينما الكويتيون يتصرّفون كـ (باريس هيلتون)». ولعل أوبرا بحاجةٍ إلى قراءة مسألة النسبية الثقافية أو التأمل في قول الجاحظ: «الفضائل والكمالات والمثالب والمقابح موزعة بين الأمم والأقوام».

وقبل الحديث عن ظاهرة الكسل، باعتبارها ثقافة شعوب، يجدر بنا تصنيف الكسل إلى ثلاثة أنواع: أولها الكسل الذهني وهو الذي يشير إلى تدني الرغبة في التفكير والتثاقل عن البحث والتحليل، وهذا النوع مستشرٍ وكارثي على المجتمعات، وهو الذي يوسع حجم قاعدة الهمج الرعاع في المجتمع بحسب تصنيف الامام على (ع): «الناس ثلاثة: عالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع ينعقون مع كل ناعق»، حيث يجعل هذا النوع من الكسل السواد الأعظم من الناس جاهزين لقبول التصورات المتوارثة وتقبل الخرافة والاقتناع بالتفسيرات غير المنطقية، وهو يكون لديهم قابلية عالية للتأثر بالإعلام الموجّه من قبل الحكومات.

أما النوع الثاني فهو الكسل الجسدي، الذي تكون أسبابه فسيولوجية، كما تذكر الكتب الطبية كفقر الدم والسكري وتدني نشاط الغدة الدرقية وأمراض القلب والجهاز التنفسي وغيرها. أما النوع الثالث فهو الكسل النفسي حيث فقدان الرغبة في العمل، وتدني الحماس والميل إلى الخمول والسلبية في مواجهة متطلبات الحياة. وهو الأقرب إلى مرض الاكتئاب في بعض صفاته بسبب الاحباطات المتراكمة، أو بسبب كثرة الأعباء والضغوط النفسية والتوتر الداخلي الناجم عن عدم تحقيق الطموحات الذاتية. فالكسل سيكولوجياً ناجم في أحد أسبابه، عن الإحساس بالضعف والقصور، أي الإحساس بعدم جدارة الشخصية، والعكس صحيح؛ فإن النشاط يفصح عن الإحساس بالثقة والكفاءة، ما يدفع صاحبه إلى ممارسة وظيفته بحيوية وتفاؤل؛ لأن الشخصية التي تتمتع بالصحة النفسية لا تجد لديها مجالاً للكسل. وكما قيل «الفراغ مفسدة»؛ فالإنسان السوي لا يجتر مشاكله فهو مشغولٌ عن ذلك بالعمل. بل إن بعض علماء النفس يعالجون مرضاهم بإشغالهم بـ «العمل» حتى لو كان ذهنياً أو عادياً لا قيمة اجتماعية له.

والحقيقة أن الكسل يرتبط بمنظومة القيم الحضارية لأية أمة من الأمم، فهو يصطدم بالقيم السائدة في المجتمع، وهو ليس مرتبطاً بوفرة المال ولا بوفرة الخدمة فقط، كما يظن البعض، فهناك دول فقيرة تصدرت الدول الأكثر كسلاً، حيث لا مال ولا خدمات، ولكنها ثقافة الشعوب.

وبالنسبة لمجتمعنا العربي فلعله يتحتم علينا الاعتراف أن الكسل من أكثر الأشياء تأثيراً في حياة الناس، لما يسببه من عزوف عن العمل وتدنٍ في الإنتاج وقلةٍ في الإنجاز وتقاعسٍ في أداء الواجب نحو الذات والآخر. ومع ذلك فإننا نجد مراكز البحوث والجامعات في غفلةٍ عن دراسة تلك الظاهرة وكأنها تتعمد أن تعطي برهاناً لحالة الكسل في دراسة الكسل!

نعم قد تتباين الآراء حول تفسير انتشار الكسل، ولكن باستقراءٍ لموروثنا القيمي والديني، يمكننا أن نلمس كيف ربط الحق سبحانه وتعالى بين الكسل والنفاق في قوله تعالى: «إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخادِعونَ الهَأ وهُوَ خادِعُهُم وإذا قاموا إِلى الصَّلاةِ قاموا كسالى يُرآؤُونَ النَّاسَ ولا يَذْكُرونَ الهَ إِلاَّ قليلاً» (النساء، 142). وذكر سبحانه وتعالى سيدتنا مريم عليها السلام وقد جعل لها من الرطب الجني ما كفاها مؤونة الطلب وفيه أعظم معجزة، فإنه لم يُخلها من أن يأمرها بهزّها فقال تعالى: «وَهُزِّي إِليكِ بِجِذعِ النخلَةِ تُسَاقِطْ عليكِ رُطَباً جَنِيّاً» (مريم، 25). وجاء فصل رائع وممتع أورده الراغب الأصفهاني في كتابه «الذريعة» فقال في مدح السعي وذم الكسل: «من تعطل وتبطل انسلخ من الإنسانية، بل من الحيوانية، وصار من جنس الموتى». وذكر الأصبغ بن نباته من تلامذة أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (ع) ما يصف به الإمام باعتباره قدوةً للشعوب في العمل بقوله: «كان ليصل الليل بالنهار والنهار بالليل تعباً وعملاً». وذات يوم قال الأصبغ للإمام: يا أمير المؤمنين ألا تستريح؟ فأجابه: «يا أصبغ كيف أنام؟ إن نمت النهار ضيّعت رعيتي وإن نمت الليل ضيّعت نفسي»؟

لكن علم الاجتماع السياسي المعاصر يحمل الكسل -أحياناً- بعداً احتجاجياً؛ فمثلاً يمكننا تأويل كسل الموظف في أداء عمله باعتباره نمطاً من الانتقام اللاشعوري الموجّه نحو سلطة الإدارة التي تقمعه أو لا تقوم بتقديم الحوافز المرضية له! نعم، قد أميل إلى القول إن الكسل عند الناس قد يحمل دلالات احتجاجية تتضمن غياب قيم مهمة كالعدالة. وعلى سبيل المثال فإنني أقوم الآن بالإشراف على ما يقارب من (500) طالب في المرحلة الجامعية يتدرّبون في شركات متنوعة، ولي احتكاك يومي مباشر معهم باعتبار ذلك من مسئولياتي وباعتبارهم طلبتي وأبنائي؛ وهي حالة تعب إنساني غاية في الروعة؛ ولكن المؤسف أن أغلب هؤلاء لا يشعرون بوجود عدالةٍ في التعيين والتوظيف بعد التخرج، وان الاختيار تتدخل فيه اعتبارات طائفية وقبلية ومناطقية، ولدى هؤلاء الشباب شعورٌ بأن لا فائدة من العمل الجاد؛ فالجدارة ليست هي المعيار في توظيف الناس؛ فالكسل بالنسبة لهم وسيلةٌ نفسيةٌ دفاعيةٌ للتكيّف مع حالة غياب قيمة العدالة الاجتماعية.

في تقديري هناك علاقة وثيقة (ولكنها غير واضحة) بين قيم المثابرة وعلو الهمة، وبين توجهات رأس الهرم الإداري والسياسي ووجود نماذج قيادية قدوة؛ بل هي المسئولة عن غرس القيم في المجتمع، وهي بحاجة إلى أن نسلّط أنوارنا الكاشفة عليها. فقد طالعنا ما جاء في تقرير عالمي عن نتائج دراسة حول الشباب قامت بها مؤسسة بحث فرنسية على 33 ألف شاب حول العالم شملت 25 بلداً للكشف عن تحولات منظومة القيم التي يحملها هؤلاء الشباب، حيث بدأ التقرير بالكلمات التالية: «إن العصر الحالي سيعرف حرباً جديدة، هي ليست بالحرب التقليدية، ولكنها حرب قيم».

أختم باقتراح ليس له علاقة بالموضوع، وهو التشجيع على مطالعة كتاب رائع وجميل كنت أتصفحه هذا الصباح لأبي حامد الغزالي واسمه «التبر المسبوك في نصائح الملوك»، يروي فيه قول محمد بن علي بن الفضيل: «رأيت الناس في أيام الوليد بن عبد الملك قد اشتغلوا بعمارة البساتين وبناء الدور وعمارة القصور. ورأيتهم في زمان سليمان بن عبد الملك وقد اهتموا بكثرة الأكل وطيب الطعام حتى كان الرجل يسأل صاحبه أي لون اصطنعت؟ وماذا أكلت؟ ورأيتهم في أيام عمر بن عبد العزيز قد اشتغلوا بالعبادة وتفرّغوا لتلاوة القران وأعمال الخيرات وإعطاء الصدقات»!

إقرأ أيضا لـ "منصور القطري"

العدد 3920 - الجمعة 31 مايو 2013م الموافق 21 رجب 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 5 | 11:07 ص

      الهمم وقمم جبال وصبر الجمل

      من جد وجد .. زمن زرع حصد .. ومن سار على الدرب وصل.. أما الهمه وعلوها كعلو الجبال يمكن أن تزيلها. هنا عزيزي القاريء تحتاج الى مروءة وذات صبر وإيمان صدق أمانه وإخلاص... يعني بالبحراني علو الهمم عند ما يكون الانسان عنده واجد مروءه ورجوله ونخوه وشهامه وتعبر عنها ذاته بذاته. فنفسه كريمه وعزيزه من كرامة الله التي أكرم النفس البشريه. وهنا سر الطبع وليس للتطبع علاقه بها والتربيه ما هي الا جزء من كل..فالمثابره والجد والسعي وراء الوهم ليس كما العمل بصدق وإخلاص فيه تفاني. أليس كذلك؟

    • زائر 4 | 10:20 ص

      موضوع رائع ومفيد

      شكرا على هذا التحليل استاذ منصور

    • زائر 3 | 9:51 ص

      المصلي

      اخي منصور القطري مقالك اكثر من روعه المجتمعات العربيه في مجملها هي في واقع الأمر اتكاليه فهي لاتزرع ولاتصنع ولاتدرس ولا تبتكر ولا ولا كل هذا هو نهج انتهجته الحكومات الشموليه بوضع الرجل الغير مناسب ....في ذاك البلد وهذا البلد مما ولد الكثير من الأحباط للغالبيه المسحوقه من القوه العامله فأصبحت المجتمعات العربيه بليده في عقليتها كسوله مترهله فبتليت اجسامها بأمراض مزمنه اجارنا الله واياكم منها

    • زائر 2 | 2:12 ص

      العادات والاعراف وحريان العادة دون توقف

      ليس من الأسرار أن يكون الاستهلاك مصدر من مصادر الطاقة الى الخمول والكسل. جريان العاده كمجر الدم في العروق حول شعوب الدول الناميه الى دول نائمه بفضل الازدهار والرقي والترف والبذخ الذي صرفه حكام هذه الدول على ذويهم وبطانتهم من كهنه عفواً (مستشاريين أمنيين وقانونين لا يعرفون القانون). هذه وغيرها من الاسباب التي قد تخول القاريء كما الكاتب والراوي الى القول الى أن معضم شعوب العالم الثالث وقع تحت الاستعمار وتحت راية الاستثمار الى أن إستهلك ويستهلك بضائع يدورها رأس مال. فهل الشعوب في ربيع أم في خريف>

    • زائر 1 | 10:08 م

      رائع

      مقال شامل و رائع. هل من يعترض و بالدليل على قول وينفرى أوبرا؟

اقرأ ايضاً