العدد 3975 - الخميس 25 يوليو 2013م الموافق 16 رمضان 1434هـ

مصر إلى أين؟ الحقائق الثمان لفهم الأوضاع في أرض الكنانة (1)

محمد نعمان جلال comments [at] alwasatnews.com

سفير مصر الأسبق في الصين

أخطأ كثيرون في فهم شخصية الشعب المصري وهوية مصر كدولة، ولعل في مقدمة هؤلاء بعض المستشرقين، ولكن الأخطر عندما يخطئ دبلوماسي أميركي يجيد اللغة العربية في فهم الشخصية المصرية والواقع المصري، لأن ذلك يترتب عليه إساءة تقدير من القوة العظمى الوحيدة في عالم العقود الأولى من القرن العشرين لدولة ليست فقط ذات تاريخ حضاري عريق وإنّما أيضاً لها دور مهم في أربعة محاور هي المحور العربي والإفريقي والإسلامي والدولي.

وأشير على سبيل المثال إلى ثلاث وقائع منها تحوّل مصر نحو الاتحاد السوفياتي والكتلة الاشتراكية في منتصف الخمسينيات من القرن الماضي، عندما أخطأت السياسة الأميركية في فهم مصر عبد الناصر وتصوّرت أنه يمكنها الضغط على مصر لبناء السد العالي؛ والمثل الثاني عندما أخطأت السياسة الأميركية في فهم مشاعر الشعب المصري والجيش المصري بعد هزيمة 1967، وتصوّرت أن مصر أصبحت جثةً هامدةً، وجاءت المفاجأة في حرب أكتوبر 1973؛ وثالثها أخطاء سفيرة الولايات المتحدة سكوبي في قراءة الواقع المصري والغضب المصري ضد نظام مبارك ومساعيه لتوريث السلطة، وكذلك خطأ السفيرة التي أعقبتها وهي باترسون عندما تصوّرت أن فكر الإخوان المسلمين سوف يسود في مصر، ولذا فوجئت هاتان السفيرتان بثورة 25 يناير2011 ثم ثورة 30 يونيو 2013. وهذه التصرفات هي سلسلة لأخطاء أميركية في فهم شخصية الدول والحضارات الأخرى.

وللأسف بعض الإخوة العرب وخصوصاً الفلسطينيين، يقع في أخطاء مماثلة، خذ مثالاً المقاطعة العربية لمصر بعد معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، ثم إدراكهم أن ما فعله السادات كان عين الصواب ولكن بعد سنوات ضاع فيها على العرب وعلى الفلسطينيين الكثير من الوقت، بل إن بعض المصريين أنفسهم يقعون في الفهم الخاطئ للشخصية المصرية مثلما حدث مع الرئيس مبارك تحت تأثير زوجته في موضوع «الوراثة»، ومع الإخوان المسلمين في قضية الاستحواذ والتمكين والإقصاء عندما وصلوا السلطة. ولعل مرجع الكثير من الأخطاء عدم قراءة التاريخ المصري العريق وسيكولوجية الشعب المصري ونظرته لنفسه وللدوائر السياسية الجيواستراتيجية التي يعمل في إطارها.

ولقد كتبت في دراستي عن هوية مصر تحليلاً للقوى السياسية في المجتمع المصري، والذي صدر في منتصف الثمانينيات، كما كتبت في كتابي المعنون «الإستراتيجية والدبلوماسية والبروتوكول»، تعريفاً لمفهوم الدبلوماسية من وجهة نظري، وهي «إن الدبلوماسي هو مبعوث حضارة إلى حضارة أخرى»، ومن ثم فإذا لم يفهم الدبلوماسي حضارته ويفهم حضارة الدولة المرسَل إليها، يقع في الكثير من الأخطاء التي تؤدي أحياناً إلى كوارث في علاقات الدولتين. من هنا أهمية فهم الحضارات لرجل السياسة لمعرفة ردود فعل الدول الأخرى ليأخذها في الحسبان عند اتخاذ القرار.

ولقد تعرضت عدة مرات للسؤال المتكرر من بعض الأصدقاء وغيرهم: مصر إلى أين؟ وبعد تروٍ وتفكيرٍ خلصت إلى سبع حقائق أراها مفتاحاً لفهم الأوضاع الراهنة في مصر، من خلال فهم الشخصية المصرية والتراث الحضاري المصري، ومن ثم تساعد في الإجابة على السؤال المطروح. وأطلقت عليها الحقائق الثماني لفهم ومن ثم تفسير الموقف وتصور تداعيات المستقبلية.

الحقيقة الأولى إن مصر سبقت كثيراً من الحضارات البشرية، وكذلك سبق وجودها وإيمانها بالله الواحد العقائد والأديان السماوية، فالإيمان بقرص الشمس في عهد اخناتون، وكذلك مزامير داوود وخصوصاً المزمور 104 تكاد تكون منقولة حرفياً عن ترانيم اخناتون وخصوصاً في كتاب الموتى في عصر الفراعنة. وفي هذا الإطار عرفت مصر مفهوم الدين قبل أن يظهر الإخوان المسلمون أو السلفيون أو غيرهم إلى الوجود.

الحقيقة الثانية إن الحضارة المصرية وعبقريتها باستعارة مصطلح العلامة جمال حمدان، اعتمدت مفهوم التسامح والاعتدال في معظم تاريخها، وعرفت الثورات العنيفة في مراحل قليلة، لعل أهمها في عصر الفراعنة الثورة الاجتماعية التي هي أول ثورة في التاريخ في أواخر الأسرة السادسة في عهد الملك بيبي الثاني الذي حكم مصر 94 عاماً وتولى السلطة وسنه 6 سنوات، وكان من بين أسباب الثورة انخفاض منسوب مياه نهر النيل وزيادة الضرائب، ما أدخل مصر في مرحلة أطلق عليها عصر الاضمحلال في أواخر عهد الأسرة السادسة بعد فترة بناة الأهرامات المشهورة. ثم جاءت ثورة مصر التحريرية الكبرى في عهد أحمس لطرد الغزاة الهكسوس وبناء الدولة الفرعونية الحديثة، ثم احتضان مصر للمسيحية وبناء أول كنيسة في الإسكندرية عام 49 ميلادية، ورفضها ومقاومتها للفكر الكنسي الذي اعتمدته كنيسة روما وسعت لفرضه على المذاهب المسيحية الأخرى. ورفض المصريون الإملاء الخارجي لعقيدتهم، وقد أدت مقاومة كنيسة الإسكندرية لذلك، إلى ما عُرف بعصر الشهداء، تمسّكاً بالدين المسيحي القويم.

وهكذا حتى جاء الفتح الإسلامي بقيادة عمرو بن العاص ووجد المصريون أن في الإسلام تسامحاً واعتدالاً وليس سعياً للقمع والقهر والتمكين، إذا استخدمنا المصطلحات الحديثة، فرحّبوا به. وكان النبي محمد (ص) أبرز من أشاد بمصر وأوصى بأقباطها في مقولته المشهورة: «إذا فتح الله عليكم مصر فاستوصوا بقبطها خيراً فإن لي فيهم صهراً ونسباً». والدلالة هنا هي أن مصر مسلمة قبل ظهور الإخوان (المسلمين) عام 1928، وستظل كذلك بعد أفولهم وأفول غيرهم من المذاهب والحركات الإسلامية السياسية في الماضي والحاضر والمستقبل. فمصر أهم من أيّ مذهب أو حركة دينية أو سياسية وستظل باقية.

الحقيقة الثالثة إن شعب مصر في تكوينه ونفسيته وسلوكه أكثر اعتدالاً وتسامحاً ويعشق الحرية، ولكنه في نفس الوقت أكثر صبراً على الحاكم الظالم، وأكثر عنفاً عندما يثور ويصر على حقه في اختيار حاكمه، ويرفض أية إملاءات خارجية. واذكر مثالاً مشهوراً هو مقاومة المصريين للحملة الفرنسية رغم كل محاولات الدعاية الفرنسية التي قام بها نابليون بونابرت، ورغم انجازات تلك الحملة من الناحية العلمية في اكتشافها لشفرة اللغة الهيروغليفية.

وكان الإصرار المصري واضحاً في رفض أكثر من خمسة ولاة تم تعيينهم من قبل الباب العالي (الدولة العثمانية) التي كانت تحتل مصر وتسيطر عليها باسم الدين، وهو منها براء، وإصرار العلماء والشعب المصري على اختيارهم لمحمد علي الذي توسّموا فيه خيراً، ولم يتطلع العلماء المصريون والثوار لتولية أحدهم على مصر، ولكن محمد علي سرعان ما انقلب على من نصّبوه السلطة من العلماء ومن المماليك وغدر بهم، ثم انطلق في بناء نهضة مصر الحديثة حتى اصطدم في سياساته مع العثمانيين ومع الاستعمار الأوروبي الصاعد فتحالف الجميع ضده. ونتساءل: ما هي دلالة هذه الحقيقة؟

يمكن أن نستنتج من ذلك أن التخلي ورفض حكم الإخوان بعد الموافقة على اختيار رئيس منهم لظهور حقائق جديدة، وحنث بالعهود. ومن الحقائق التي تكشّفت عدم وجود مشروع نهضة، كما روّج لذلك محمد مرسي في حملته الانتخابية، واكتشاف المصريين أن مرسي تحوّل إلى رئيس لحزبه وعشيرته وحركته الإخوانية، وليس رئيساً لكل المصريين، وهذا بخلاف حالة محمد علي الذي أصبح رئيساً لكل المصريين، وقدّم مشروعاً نهضوياً مدنياً بعيداً عن الفكر القديم الذي كان يسعى لجر مصر للماضي السحيق بسيطرة فصائل المماليك.

أما حالة الرئيس السابق محمد مرسي فلم تكن تختلف كثيراً عن حالة الرئيس الذي سبقه محمد حسني مبارك في السعي للاستيلاء على ثروات البلاد لمصلحة حزبه الذي نشر أعضاءه بسرعة في كثير من مفاصل الدولة، من القضاء إلى الشرطة والإعلام والخارجية والاقتصاد والتجارة، حتى أنه كان يصطحب معه رجال الأعمال من حزبه في رحلاته للصين والهند وباكستان والبرازيل وروسيا وجنوب إفريقيا سعياً نحو الانضمام لمجموعة «بريكس» الخماسية. وقد رفض طلبه لأن مصر ليست مؤهلة، فهي ضعيفة اقتصادياً، وغير مستقرة سياسياً، بخلاف تلك الدول الخمس، كما حمّل مرسي ميزانية الدولة رهقاً بتعيين نصف مليون مصري في وظائف قيل إنها لمواجهة البطالة، والحقيقة أن 80% منهم كانوا من حركة الإخوان وحدها، هذا فضلاً عن زيادة الحراسة له ولأنصاره بأكثر مما كانت في عهد حسني مبارك. (يتبع).

إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"

العدد 3975 - الخميس 25 يوليو 2013م الموافق 16 رمضان 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً