العدد 4010 - الخميس 29 أغسطس 2013م الموافق 22 شوال 1434هـ

خطايا الماضي إذ تعمل في الحاضر

علي محمد فخرو comments [at] alwasatnews.com

مفكر بحريني

منذ بضع سنوات أظهرت مراجعة شاملة لخمس وعشرين ألف دراسة مختبرية، وفي الواقع الحياتي، شملت ثمانية ملايين شخص، وقام بها علماء النفس والاجتماع. أظهرت الدراسة أن سلطة الظروف الاجتماعية على الإنسان الفرد وعلى الجماعات، هي كبيرة وبالغة الأهمية، لكن الظروف تلك لا تأتي من فراغ وإنّما هي حصيلة لأنواع من الأنظمة، السياسية والاجتماعية والاقتصادية، التي تخلق تلك الظروف وتتحكم بها وتستغلها لصالحها.

بالنسبة للفرد العربي وللجماعات العربية فإن تلك الأنظمة تمثلت في ثلاث صور: نظام سياسي استبدادي تسلطي فاسد ظالم، علاقات قبلية أو عشائرية أو عائلية تعلو فوق الوطن والعام المشترك، قراءات فقهية متباينة سمحت لاستغلال الدين في السياسة وأفرزت ما عُرف بفقهاء السلاطين وبالطائفية.

النظام السياسي ذاك جذر الخوف والخنوع والاستزلام كثقافة مجتمعية رائجة، والقبلية وأخواتها أوجدت علاقات مجتمعية مصلحية منغلقة على نفسها وقامعة لاستقلالية الفرد والتزاماته العامة، أما استغلال القراءات الخاطئة من قبل فقهاء السلاطين فقد قلب الدين الإسلامي من كونه ثورةً في سبيل الحق والعدل والحرية والسمو الإنساني، إلى مناقشات فرعية هامشية، وإلى أداةٍ لتبرير كل أنواع الأخطاء والخطايا.

إن ما يهمنا في هذا المجال هو التشابه في الجوهر بين المسيرة التاريخية العربية التي خضعت لتلك الأنظمة المستبدة أو المصلحية المنغلقة أو المستغلة للكلمات والرموز الدينية من أجل صالح السياسة، وبين الكثير من التجارب المختبرية التي قام بها علماء النفس والاجتماع عبر قرن كامل، أو التجارب الحياتية المشينة التي جرت في سجون أبوغريب وجوانتنامو أو وقعت في فيتنام على أيدي الأميركيين، وفي فلسطين المحتلة على أيدي الصهاينة، وفي العراق على أيدي مجانين الطائفية وفي العديد من الدول الأفريقية وغيرها كثير.

ولأن هناك تشابهاً في الجوهر، فإن هناك تشابهاً في النتائج، ومن أهمها الآتي:

أولاً: ترسخ ما يعرف بظاهرة الاستقالة السلبية من عيش الحياة النشطة الإيجابية. إن الفرد أو الجماعة يودون أن يقوم غيرهم بحمل مسئوليات الحياة. إنهم في تفتيش دائم عن القائد الأب أو الحاكم رب العائلة. إن الحياة القبلية قد عوّدتهم على أن الأمور يجب أن تترك لرئيس القبيلة، فهو الأعلم بتدبير الأمور.

لقد كانت ثورات وحراكات الربيع العربي محاولة جادة للخروج من حالة الاستقالة ومن حالة الخوف من مسئوليات الحرية، لكن التخلص من تلك العادات والعاهات لن يكون سهلاً. وها نحن اليوم، بعد مرور سنتين على الربيع العربي، نرى عند البعض في مصر وتونس وليبيا واليمن حنيناً لعودة الرئيس رب العائلة والقبيلة، بعد أن أذهلتهم وأنهكتهم مسئوليات الديمقراطية ومتطلبات ممارستها.

ثانياً: من أخطر النتائج هو ترسخ ظاهرة ما يعرف بتجريد الآخر من إنسانيته (DEHUMANIZATION)، وعندما تمارس تلك العادة فإنها تؤدي إلى كوارث. إن جزءاً أساسياً من التركيبة النفسية عند شباب مجاهدي القاعدة هو التعامل مع أعدائهم أو حتى مخالفيهم على أنهم ليسوا بشراً يستحقون الحياة، ولذا يجب أن يتم اجتثاثهم من الوجود.

لكن هذه الممارسة لا تقتصر على هؤلاء المتطرفين فقط، فنحن نراها أيضاً عند بعض المتطرفين من الإعلاميين والسياسيين أيضاً. إننا عندما نستمع إلى خطابهم، بلهجته الغاضبة القبيحة، تجاه قوى الإسلام السياسي في مصر أو تونس على سبيل المثال، نرى محاولة تجريدهم حتى من إنسانيتهم واعتبارهم جراثيم في الحياة السياسية يجب استئصالها أو تلقيح جسد المجتمع ضدها. يخرج التعامل هنا من مستويات الاختلاف إلى مستويات التجريد من الإنسانية، ومن ثم الاستئصال. وقد كتب علماء النفس الاجتماعي المئات من الكتب عن هذه الظاهرة الخطرة وكيف أن الأنظمة المريضة تؤدي إلى الوصول إليها عند الأفراد والجماعات.

ثالثاً: من أخطر النتائج أيضاً وصول الفرد أو الجماعة إلى حالة خبوت وضعف ذاتية الفرد، وبالتالي ضعف الضمير عنده، ومن ثم ممارسة عادة التفرج على الأحداث وعلى ما يصيب الغير بحيادية تامة وبلا مبالاة أخلاقية. انظر إلى محدودية الانتماء إلى النقابات والأحزاب ومؤسسات المجتمع الأهلية المدنية. انظر إلى المذابح التي تجري يومياً في أرض العرب من قبل بعض الأنظمة أو الإرهابيين أو عتاة الطائفية دون أن تخرج مظاهرة واحدة للتنديد بذلك. انظر إلى الاستباحة الصهيونية والاستعمارية اليومية لكل حرمة ومبدأ دون أن يتحرك ضدها إلا القليل. انظر إلى دموع الثكالى والأطفال والعجزة دون أن تحرك الغضب ولا حتى الاحتجاج.

إن موت ذاتية الفرد الإنسانية تفسر ذلك.

هذا موضوع لا تعطيه حقه مقالةٌ، إذ يحتاج إلى كتب، والنتائج الثلاث هي أمثلة. إنها تفسر جزءاً من مشهد الربيع العربي الذي لا يكفيه أن يدرس من خلال السياسة فقط. إنه مشهدٌ مركّبٌ ويحتاج إلى صبر وإيمان بالحق وفي نهايته يشع نور.

إقرأ أيضا لـ "علي محمد فخرو"

العدد 4010 - الخميس 29 أغسطس 2013م الموافق 22 شوال 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 8 | 7:17 ص

      شكرا

      المقالة جدا رائعة وافضل ما في المقال الفقرة الاخيرة
      خاتمتاه مسك
      شكرا جزيلا دكتور

    • زائر 7 | 6:05 ص

      كم انت جميل يا دكتور

      شكرا على هذا المقال الرائع ، نتمنى لك الموفقية ، ودائما الى الامام ، نعم كم اتمنى ان تكون وزير تربية وتعليم ، نعم البحرين خسرت رجل كان بالامكان ان تستفيد به استفاده كبيرة ، ولكن للاسف هذه هي البحرين .

    • زائر 6 | 3:19 ص

      إن العقارب تلدغ لا لأجل عداوة لكنها لدغاً من طبعها!

      قالوا بالفوضى الخلاقه ونسوا أنهم يصنعون ولا يخلقون - مخلوقات. فعند مراجعة التاريخ الهجري والميلادي يمكن ملاحظة أن من ينشر الفتن ويساعد الناس على الاحتراب من اليهود. قد يعانون من إنفصام شخصية أو ظلموا أنفسهم فيظلمون الناس. كيف توصل فرويد الى أن البشر قد تتحول الى وحوش كاسرة. وما تجربة إعادة قادة عسكرين وإعداد المجاهدين الأفغان والجيوش إلا خير برهان على كيف يفكر العالم الأول في صناعة حربية وبيع سلاح ومتاجرة به لسفك دماء. اليس هذا مخزيا للبشريه التي وصلت القرن الحادي والعشرين بعقلية جاهليه؟

    • زائر 5 | 3:13 ص

      برامج التأهيل والمناصحه وليس سياسه الانتقام

      برامج المناصحة الجادة والتقويم الإصلاحي ثم العودة بهم إلى الحياة الطبيعية وليس سياسة التشهير والتخوين والعقوبات القاسية والتي تصل إلى المؤبد والتي على اثرها تتزايد الأحقاد والاضغان وندور في حلقة مفرغة من العنف والعنف المضاد وطلب الثأر وكأننا في قرى الصعيد

    • زائر 4 | 3:04 ص

      التخلي عن الانسانية ولصقها بالاسلام

      بعض المتمسلمين من السطحيين والجهلة خلعوا انسانيتهم واصبحوا اسوأ من الوحوش والمشكلة انهم يتسترون بالدين الاسلام لجلب الانتقاد للدين الاسلامي

    • زائر 3 | 3:03 ص

      تجار أو أموات قلب ؟- لا يرحم ولا يخلي رحمة الله تنزل من زود الظلم

      ليس من الأسرار أنه كما الناس أجناس الناس معادن – يعني ختم الله على قلوبهم فهم لا يبصرون وهذا يعني مختومه ومطبوع عليها. فالانسان الذاتي ليس كمثل الدوني وهذا واضح أن الدوني يرى الناس أدنى منه فيتعالى ويتكبر عليهم أما الذاتي فيعتمد على نفسه ويخدم نفسه بنفسه ولا يعتمد على غيره أو يأكل كما الاقطاعي أو بعض التجار من يتاجر بالبشر ويستغلهم. هنا قد يبدو الإقطاعي يشبه الطفيلي الذي يأكل من تعب غيره. قيادة العالم الى مزيد من الحروب وتدمير الأخضر واليابس من أجل تجارة وصلت البشرية الى الحروب

    • زائر 2 | 2:42 ص

      النفس قد تكون طبعها حيواني أو قد يكون إنساني لكن..

      رأس المال – أو الأرصده البنكيه والعقود التي تعينه بطريقة أو على طريقة الديمقراطية الأمريكيه. لا يعتقد ولا يضن أن هناك عاقل يقول بأن رئيس الولايات الأمريكيه السابق من كان يحكم نفسه أو كان عاقلا راشد ويعي بأن القتل ليس حلال. لكن الحرية التي لا حدود لها ليست حريه وإنما جاهلية مطلقة الحرية. أليس من الصواب مراجعة الدروس والمذاكرة وكل واحد على هذه الكرة الأرضية يتذكر أنه إنسان وآن الآخرين ناس ليسوا مثله لكن شبهه. ليس المال ولا رصيد وسيارة ورفايه لكن إذا ما دقق الانسان في نفسه..

    • زائر 1 | 2:33 ص

      دعاية أو برمجة عصبيه أو عصابات وشبكات خدمة مجتمع دولي امبرياليي؟

      من الواقع وليس من مسرحية شاهد ما شاف حاجة لكن شاهد على العصر وآخر شاهد على المغرب لكن لا هذا شاهد كيف يحكم ولا ذاك عرف كيف تسلب وتنهب . فلا قاضي قضى حاجات ولا حاكم حكم بالعدل. وكأنما إستحبوا الدنيا على الآخر وأحلوا وإستحلوا وأباحوا للحكم على بعض الناس كما يفعل الأمريكان. قتل وضرب لكن بإرشاد ديني وتوجيه أمريكي صهيوني إنجليزي. اليست صوره غير جميله للطبيعة شعوب بائسة كأنها يائسة من شدة الظلم والألم بسبب جهل صهيوني؟

اقرأ ايضاً