العدد 4017 - الخميس 05 سبتمبر 2013م الموافق 29 شوال 1434هـ

آفاق الإصلاح في ضوء مبادرة الملك بإنشاء المحكمة العربية لحقوق الإنسان (1)

محمد نعمان جلال comments [at] alwasatnews.com

سفير مصر الأسبق في الصين

تتقدم الدول والشعوب من خلال المبادرات والأفكار البناءة للنخب السياسية والفكرية والمثقفين، أو مبادرات من القادة وأصحاب القرار فيها. ولقد جاء التقدم الأوروبي نتيجة أفكار جان جاك روسو ومونتسكيو وفولتير وغيرهم كثيرون، وجاء التطور في القانون الدولي بعد معاهدة وستفاليا العام 1648، التي وضعت أساس المساواة بين الدول، وأرست دعائم السيادة الوطنية في مواجهة الفكر الكاثوليكي الكنسي آنذاك، وأنهت الصراع بين الدول التي تعتنق المذهب الكاثوليكي وتلك التي تعتنق المذهب البروتستانتي، حيث أدرك الأوروبيون، قادةً وسياسيين وقانونيين، أن الصراع الديني الطائفي لا نهاية له، وأنه وسيلة تدمير الدول وليس بنائها.

ولقد كان القرآن الكريم سباقاً في تبصيرنا بهذا الخطر، مؤكداً أن الله خلق البشر مختلفين، في الألوان والأجناس والقدرات واللغات والفكر وهكذا، وهذا الاختلاف شيء غير الخلاف، وأهم الاختلافات هي الاختلاف الديني، ولم يشأ الله سبحانه وتعالى أن نكون متفقين بمعنى أن نكون نسخة كربونية لبعضنا، ومن ثم تنتفي الحكمة الإلهية من تعاقب الليل والنهار لو كان أحدهما سرمداً كما قال القرآن، وتنتفي الحكمة الإلهية لو كانت الحياة دائمةً أو الموت دائماً، وتنتفي لو كان الناس جميعاً رجالاً أو كانوا نساءً، وتنتفي لو كان الناس جميعاً مؤمنين صالحين.

وقد أكد هذه المعاني القرآن الكريم في كثير من الآيات، ولكن يكفي أن نشير إلى آية واحدة عظيمة الدلالة على هذه الحكمة الربانية بقوله: «ولو شاء ربُّك لجعل الناسَ أُمَّةً واحدةً ولا يزالون مُختلِفِين. إِلا مَنْ رَحِمَ ربُّكَ ولذلك خلَقَهُمْ وتَمَّتْ كلمةُ ربِّك لأَملأنَّ جهنَّم من الجِنَّةِ والنَّاسِ أَجمعينَ (هود، 118- 119).

وإذا كانت حكمة الله وسنته في خلقه أن نكون مختلفين، فإن الحكمة الثانية أن يكون بيننا صراع، وأكد القرآن الكريم ذلك بقوله «ولولا دفْعُ اللهِ الناسَ بعضَهُم بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صوامِعُ وبِيَعٌ وصلوَاتٌ ومساجِدُ يُذْكَرُ فيها اسْمُ الهِن كثيراً ولَيَنْصُرَنَّ الهُو مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ الهَذ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ» (الحج، 40). هذا الدفع المؤدي للصراع هو نفسه المؤدي للتعاون والتوافق والوئام من خلال آليات حل للصراع. ولعل في مقدمة هذه الآليات هو الالتجاء للقانون ومن يضطلعون بتطبيق القانون هم القضاة والمحاكم، ومن يضطلعون بتنفيذ الأحكام، وهم رجال الشرطة ومسئولو الأمن.

ولو ترك البشر بدون محاكم وبدون شرطة لعمت الفوضى، وهذا ما عبّر عنه الفيلسوف السياسي البريطاني توماس هوبز في كتابه التنين Leviathan أو ما يسمى أحياناً بحالة الفوضى قبل قيام السلطة السياسية، وهذا ما كان إثر خلق الله سبحانه وتعالي لآدم ونزوله على هذا الكوكب عندما قتل قابيل هابيل لاختلافهما ونزاعهما، ولو كانت هناك محاكم ومؤسسات تنفيذ قراراتها لكان البشر قد تجنبوا أول اعتداء على الحق في الحياة، الذي هو أهم الحقوق البشرية، ولكان الالتجاء للقضاء والامتثال لحكمه وتنفيذه، ولهذا أطلق على هذه العملية اسم «العدالة» وهي عدالة نسبية لأن كل واحد منا له نظرته للعدالة وله حجته ودوافعه، ولكن على الجميع أن ينصاع لهذه العدالة النسبية وإلا عمت الفوضى.

وهناك العدالة المطلقة، وهي العدالة الإلهية، ولهذا سمّى الله نفسه «العدل»، وأدرك المسلمون ذلك فكان عمر بن الخطاب (رض) أكثر الحكام المسلمين الذين أُطلق عليهم هذا المفهوم البشري للعدالة لاجتهاده لأقصى درجة في هذا الأمر، وقيل عنه من شخص غير مسلم كان يبحث عن حاكم المسلمين «عدلت فأمنت فنمت يا عمر».

من هذا المنطلق، ينبغي الإعراب عن التقدير والتحية والشكر لمبادرة الملك حمد بن عيسى آل خليفة باقتراح إنشاء محكمة عربية لحقوق الإنسان، وأرى كباحث مهتم بقضايا حقوق الإنسان أن هذه المبادرة سعت لثلاثة أهداف أولها إيجاد آلية لضمان الحقوق وتحقيق العدالة. وثانيها إنشاء مؤسسة حقوقية ضرورية لسد فراغ البناء المؤسسي لحقوق الإنسان في المنطقة العربية لكي تكون مثل المناطق الأخرى في العالم. وثالثها إيجاد آلية للتطور السياسي عبر العدالة.

فالتطور السياسي له عدة وسائل، منها التطور الثوري والجذري، وهذا في معظم الحالات يؤدي إلى كوارث كبرى، فالثورة الفرنسية لم تستقر إلا بعد مئة عام، والثورة الروسية انهارت بعد 70 عاماً وعادت روسيا للفكر السياسي الليبرالي، والثورات العربية الحديثة خلال القرن العشرين لا نزال نعاني من إراقة الدماء التي أسالتها وتمخّضت عن نظم سياسية ديكتاتورية، وأدى ذلك إلى تكرار الثورات مجدّداً في أوائل القرن الحادي والعشرين، في حين أن الماجنا كارتا في بريطانيا اتبعت منهج التدرّج في الإصلاح الذي هو سنة الحياة، وليس العمل الثوري، رغم أننا كبشر نحب العمل الثوري ونطالب به فإذا حدث عانينا الكثير منه. (يتبع).

إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"

العدد 4017 - الخميس 05 سبتمبر 2013م الموافق 29 شوال 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً