العدد 4101 - الخميس 28 نوفمبر 2013م الموافق 24 محرم 1435هـ

نسيج الدولة العربية هو المشكلة

علي محمد فخرو comments [at] alwasatnews.com

مفكر بحريني

أثبتت الثلاث سنوات الماضية من عمر ثورات وحراكات الربيع العربي، ومن قبلها حقب قرون تاريخ العرب، أن مشكلة المشاكل كلّها هي الدولة العربية: أسس قيامها، شرعية ونظام حكمها، نوع وعلاقات مؤسسات إدارتها، مقدار التوازن بين مجتمعاتها وبين سلطات حكمها.

بسبب وجود نواقص في كل تلك الجوانب من تركيبة الدولة العربية، أصبحت دولةً تستعصي على الإصلاح التدريجي المعقول، وتتخبَّط في التعامل مع انفجار الثورات أو الحراكات الكبرى في بداياتها، وبالتالي تصر على إيقاف وتجميد الزمن لتصل في النهاية إلى الفوضى والإنقسامات المفجعة وإمكانيات التَّلاشي كدولة.

أساس الإشكال يكمن أولاً في أن في بلاد العرب لدينا سلطات وليس دولاً بالمعنى المتعارف عليه. وهي سلطات تتمثل في أشكال كثيرة. فقد تكون سلطة عسكرية، أو تكون أقلية مذهبية طائفية، أو تكون قبلية متنفذة، أو تكون حزباً قائداً طليعياَ مهيمناً على كل ما عداه.

لقد تميّز تاريخ تلك السلطات، في أي شكل تمظهرت، بابتلاعها للدولة، بخيراتها المادية والمعنوية، وباستغلالها أبشع الاستغلال، وبنهبها بصورة منهجية لا رحمة فيها. ثم قامت هذه الدولة، المسروقة الفاسدة، من خلال ممارسة الاستبداد، بابتلاع مجتمعها، بحيث لم يعد للمجتمع وجود فاعل قادر على مراقبة ومساءلة ممارسات وخطايا سلطات الدولة، التي هي في الغالب لديها مشاكل مع شرعيتها غير الديمقراطية.

مثل هكذا سلطات ما كان يمكن إلا أن تبني دولة تسلطية تمارس الاستبداد التاريخي القديم، ولكن بوسائل بيروقراطية عصرية من خلال تدخُّل وهيمنة سلطات الدولة على السياسة والاقتصاد والإعلام والثقافة، وبالتالي تجعل مجتمعاتها مجتمعات تابعة ضعيفة وذليلة لا حول لها ولا قوة.

الدولة العربية الحديثة إذن لا يمكن وصفها بالدولة المدنية، ذلك أن الدولة المدنية هي دولة الشعب الذي يسكنها، دولة المواطنين المتساوين في الحقوق والواجبات، المتساوين أمام قانون غير تمييزي عادل. وهي بالتالي دولة غير ديمقراطية، لا سياسياً ولا اقتصادياً ولا اجتماعياَ.

على ضوء تلك الخلفية للدولة العربية الحديثة، حيث تُختصر الدولة في سلطة، ويضمر المجتمع حتى التلاشي في الوجود الفاعل الحقيقي، يستطيع الإنسان أن يفهم ظاهرة تأرجح الحياة السياسية في الدولة العربية في الشكل والصورة، ولكن دائماً داخل إطار التسلط والاستبداد الذي لا يختفي قط.

من هنا نستطيع أن نشخّص تاريخ هذه الدولة العربية الحديثة أو تلك، ولا تهم الأسماء. إنه عبارة عن تاريخ تأرجح من دولة تسلطية، بوسائل برلمانية ليبرالية مظهرية مزيَّفة، إلى تسلطية عسكرية، بشعارات قومية أو اشتراكية، إلى تسلطية، بخليطٍ من القبضة الأمنية الحديدية وليبرالية برلمانية شكلية يسيطر عليها الحزب الواحد، إلى تسلطية دينية، بشعارات إسلامية لتغطية انتهازيةٍ سياسية. وهذا التأرجح العبثي السطحي بين هذه الصور التسلطية يظلُّ يدور حول نفسه في حلقة مفرغة لا تخرج، كما ذكرنا، عن إطار النظام السياسي المستبد الفاسد.

والملاحظ أن هذا التأرجح يعتمد في الأساس على مبدأ الترضيات الفئوية، أحياناً ترضية العمال والفلاحين؛ وأحياناً ترضية رجال الثروات والمال؛ وأحياناً ترضية أتباع مذهب أو قبيلة؛ وأحياناً بالطبع ترضية لقوى الخارج.

في جميع الأحوال تثبت الأيام أن الصورة الجديدة للحكم ليست أكثر من علاج مؤقت لا يلبث أن يفشل بسبب زيف الدواء أو بلادة الطبيب أو استمرار تفاقم المرض.

تلك الصور المتبدلة في مظهر الحكم في الدول العربية، من أقصى المشرق إلى أقصى المغرب، جسّدت بأفضل الصور، ويالسخرية القدر، قولاَ شهيراً لطاغيةٍ من طغاة القرن العشرين، جوزيف ستالين، الذي ينسب إليه قوله بأن «الدولة هي أداة في أيادي طبقة الحكم، تستعملها لكسر مقاومة كل أعداء طبقتها». والعدو في الحالة العربية هو جموع الشعب، وهي تحاول أن يكون لها وجود وصوت وفعل في دولتها.

علاج داء الدولة العربية ذلك، المعقَد المتجذر في التاريخ والحاضر، لن يكون تواجد البطل الكاريزمي الذي يأتي ولا يأتي في مسرح حياة العرب؛ ولا الجيش الوطني المتحكم في الحياة المدنية الذي أصبح ما في هذا البلد إلا هذا الولد؛ ولا المباركة الخارجية المتقلّبة في الأهواء التي تحجّ إليها الركبان؛ ولا الاكتفاء بالحديث عن الشعارات القيمية الأخلاقية الإسلامية على أهميتها، ولا بالسقوط المعيب تحت أجنحة العولمة وإملاءاتها التي بعضها كارثي.

علاج الدّاء ذاك أعقد من كل ذلك بكثير، وسنحاول مستقبلاً أن نتلمَّس بعضاً من جوانبه.

إقرأ أيضا لـ "علي محمد فخرو"

العدد 4101 - الخميس 28 نوفمبر 2013م الموافق 24 محرم 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 10 | 8:07 ص

      في الصمين

      التوازن بين المجتمعات ونظام الحكم هو مربط الفرس

    • زائر 9 | 2:42 ص

      الجهل والجاهليه يقال من جهل نفس ولم يعرف لها قدراً لكن

      ليس بعجيب لكن غريب من إنتشار الجاماعات السلفيه المتأسلمه في بلد أهله مسلمون – يعني جماعات دخيله على الإسلام بينما بتراخيص أو كما يقولون شرعيه! هنا يقال الإسلام ليس باللحيه ولا بالمظاهر وإنما صدق في القلب وتصديق باللسان أي ما تقوله وما تفعله متحد ولا يخالف ما قاله النبي محمد ولا يخالف ما قالوه الأوصياء من بعده عليهم جميعا أفضل الصلاة والسلام. فأسلمت هذه الجماعات كما أسلمت ولم تسلم. يعني مشركين أو مشتركين مع الأمريكان في نشر الفساد لكن بالتعاون مع الموساد الإسرائيلي؟

    • زائر 8 | 2:32 ص

      شكرا يا دكتور

      مقالك جميل وستحق القراءة فشكرا لك يا دكتور على هذا المقال الرائع ، ولك اين هو من يأخذ بهذه الافكار العملاقة ، نعم لو يتم الاخذ بها لاصبحنا بخير ، ولكن لا حياة لمن تنادي .

    • زائر 7 | 2:25 ص

      من المشاكل المستعصيه مشكلة العقود والعهود لكن

      دوله مدنيه بقواعد عسكريه لكن أمريكيه! إشلون قال جحا متى ما كانت البحرين التدخل في شئونها الداخليه والخارجيه وتوجيهها الى توجيه ضربات قاتله الى الشعب؟ قال قرعويه سياسة من سياسات الغرب في منطقة حوض الخليج للحفاض على مكتسباتها أو مصالحها. فقد كشفت الفوضى أنهم تآمروا على صدام كما تآمروا على القدافي وتآمر وخلعوا ...أي من ولوهم وأعطوهم صلاحيات محدده أي التوقيع على معاهدات وإتفاقات بيع وشراء الوقود المستخدم في توليد الطاقه. ويش نفاقات أو إتفاقات؟

    • زائر 6 | 2:19 ص

      الجهات والجبات ومنها الداخليه لكن

      قد لا يقال أن الشعوب الناطقه بالعربيه غير مستهلكه أو مستهلك بينما مستعمره من المستعبارات أو من مخلفات الحرب العالميه الثانيه والأولى. فالدول خلف الأطلسي اليوم لها حلفاء كما لديها مخابرات مركزيه في البحرين خارج القانون كما خارج الدستور. فدستور البحرين أقر بالمساوه بين الناس كما أقر بالعدل. هنا في البحرين الأجنبي فوق القانون ومنهم الدبلوماسي كما الوزراء ومن في حكمهم أي من يديرونه. !!

    • زائر 5 | 2:00 ص

      أزمة الدولة

      أاعتقد يا دكتور على أن أزمة الدولة العربية الحديثة تكمن بشكل حقيقي في أسلوب ونمط إدارتها وليس تاريخها أو مكوناتها ، لأن عدم توفر الإدارة الحديثة المناسبة لتفعل هذه المكونات المختلطة بشكل متوازن وصحيح ، لذا لا يوجد شعب لا يحمل تركيبات متناقضة وحتى معقدة وبشكل عام فأن جميع الإدارات في الدول العربية عبر تاريخ تأسيسها لم تكن مؤهلة لهذا الدور فكانت معظمها تحمل صفة الإدارات المرحلية الطارئة أو المؤقتة العاجزة في التعامل مع متطلبات والدور التأسيس الحقيقي لقيام الدولة .ع.مسيب ..مع بالغ التحية والتقدير.

    • زائر 3 | 12:11 ص

      مقال رائع

      مقال رائع يعطيك العافية دكتور علي وننتظر المزيد منك

    • زائر 1 | 11:21 م

      ورثنا ثقافة ترسخ مفهوم رعية و رعاة في وجداننا

      نحن رعية ولابد لنا من راعي و الراعي هو من يحدد اتجاه سير الرعية و ماذا يأكلون و اين و كيف يعيشون وعلى الرعية الامتثال المطلق لما يأمر به الراعي حتى لو ظلم و الهبت سياطه ظهرك و سرق مالك و هدم دارك . اليست هذه الثقافة المقدسة التي توارثتها الاجيال جيل بعد جيل ؟ ماذا نتظر من شعب هذه عقيدته

اقرأ ايضاً