العدد 4120 - الثلثاء 17 ديسمبر 2013م الموافق 14 صفر 1435هـ

مذكرات بسيوني الحلقة الاخيرة: أيقظتني المضيفة على دموع غزيرة ذرفتها حزنا على دنيا تفصل بين العدالة والسياسة

شيكاغو: صحيفة الشرق الاوسط 

تحديث: 12 مايو 2017

بدأ شريف بسيوني هذه الحلقة، العاشرة والأخيرة في سلسلة مذكراته، بتلخيص أهم دروس تجربته الذاتية، قائلا: استطعت من خلال خبرتي في الحياة فهم شيئين: الأول، أن كل شخص يختلف عن الثاني، وكل شخص له علاقته مع ربه ومع غيره، فكأن لكل شخص كونا مستقلا؛ فمن يعش داخل هذا الكون مستقل عن غيره، ولا يمكن مقارنة ما يوجد في كونه المختلف بما في أكوان الآخرين. كما تعلمت أن هناك ما يسمى النسبية؛ أي أن ما هو مهم لك قد لا يكون مهما لغيرك، وما يؤثر في شخص لا يؤثر في آخر. تعلمت أنني حين أتعامل مع غيري ألا أتعامل معه إلا على أساس كونه الخاص. وألا أقارن هذا بشعور شخص آخر حصلت له حادثة أخرى. واقتنعت بأن التعارف معناه الاختلاف وعليه لا نستطيع التفريق.

عندما بدأت التدريب سنة 1964، كانت رواتب الذين يدرسون في كليات الحقوق متدنية جدا، فمعظم الأساتذة كانوا يمارسون مهنة المحاماة بالإضافة إلى التدريس. ولم تكن المحاماة في الولايات المتحدة متخصصة كما كانت هي في بقية أنحاء العالم، أو كما أصبحت الآن. بمعنى أن يتخصص المحامي في مجال قضايا الطلاق أو المالية أو القضايا التجارية مثلا. في الستينات كان معظم المحامين يعملون في جميع المجالات. وأذكر أني التحقت لوقت محدود، بمكتب محاماة يعمل فيه خمسة محامين، وكان عملنا يشمل شؤونا عامة، مثلا عقود الزواج، والطلاق، والنفقة، وقضايا مالية وتجارية، وقضايا إرث، وتأسيس شركات. كان خليطا من كل شيء، لكنه أعطاني إمكانية فهم سير القانون والقضاء في الولايات المتحدة والمجتمع. وبمرور سنوات، صرفت النظر عن هذه العموميات، وبدأ اهتمامي بمجال القانون الدولي، واقتصر عملي عبر سنوات على حالات قليلة كل عام ولكنها مهمة جدا، وطبعا كلما اشتهرت، وانتشرت سمعتي عالميا، كانت القضايا الهامة تأتيني. هكذا عُرفت خلال الأعوام الخمسة والعشرين أو الثلاثين التي مرت عليّ، كمتخصص في مجال القانون الجنائي الدولي، وفي مجال تسليم المجرمين. لذلك كنت محاميا في أكثر من 120 قضية تسليم مجرمين من الولايات المتحدة وإليها، وهذا أكبر عدد من القضايا يتابعه محام أميركي في التاريخ. كما كنت محاميا لعدد كبير من كبار الشخصيات بمن في ذلك رؤساء دول حاليون أو سابقون. مثلا، تضمن هذا العمل أيضا، التعاون الجنائي الدولي، وطلب التعاون أو الأدلة من الخارج؛ فخلال الأعوام الماضية، كنت محاميا لرئيس غواتيمالا السابق، ورئيس جمهورية المكسيك السابق، كلاهما كان مطلوبا في الولايات المتحدة في قضايا خاصة بغسل أموال. لكن هذه القضايا كان لها في الواقع، أبعاد سياسية؛ ذلك أن الولايات المتحدة تؤيد رؤساء دول في أميركا اللاتينية في أوقات ما، ثم تغير اتجاهها وتؤيد آخرين. وكانت كثيرا ما تستخدم كل ما تستطيعه ضد هؤلاء الأشخاص لمحاكمتهم. وربما كانت قضية نورييغا أهم تلك القضايا. فقد كان نورييغا حليفا للولايات المتحدة، ثم اعتقلته بعد ذلك وسجنته في ميامي. لم أكن مدافعا عنه، لكنني فقط أعطي هذا كمثال على البعد السياسي؛ حيث كان نورييغا في وقت ما مؤيدا من أميركا ثم تغيرت السياسة، والشيء نفسه حدث مع رئيس غواتيمالا السابق، ورئيس جمهورية المكسيك. كنت أتولى هذه القضايا من نحيث المبدأ أيضا، وليس فقط لأنها قضايا هامة؛ لذلك كنت أستبعد الكثير من القضايا التي لا أومن بمبدأ العدالة والنزاهة فيها.
من القضايا الأخرى أيضا، أنني مثلت سلفيو برلسكوني، رئيس الوزراء الإيطالي السابق، حين كانت إيطاليا تطالب أميركا بالمستندات الخاصة بتعامله مع شركات الأفلام الأميركية خلال سنة، قبل أن يكون له أي دور سياسي. وكانت تحاول أن تعرف، من خلال هذه المعاملات، ما إذا كان برلسكوني هرب أموالا إلى الخارج أم تهرب من دفع الضرائب. فكان ثمة مواضيع تعود إلى خمس وعشرين أو ثلاثين سنة. والطريقة التي كانت إيطاليا والولايات المتحدة تتعاونان بها، هي أن الأخيرة كانت مستعدة لتعطي إيطاليا كل ما كانت تطلبه من الشركات، وهذا يصعب فهمه من ناحية العدالة؛ فلو أن هناك معاملات تجارية ترجع لمدة 20 أو 30 سنة، فإنه يصعب علينا معرفة الأوراق الموجودة: ما الذي سلمته هذه الشركات؟ ما الذي لم تسلمه؟ ما هي خبايا الموضوع؟ يمكن للنيابة في إيطاليا أن تأخذ هذه المستندات و«تتقصى» عنها، وتختار ما هو مناسب للقضية التي يريدون إنشاءها، والدفاع لا يعلم ما وصل إليهم من أوراق، أو مستندات لكي يستطيع أن يقول إن هذا الخطاب مثلا كان في ملف آخر. أي أنني دافعت عن برلسكوني لهذا السبب، واستطعنا منع إرسال كثير من هذه الأوراق، واستطعنا الحصول على قائمة بالأوراق التي أرسلت، لكي يتمكن الدفاع من النظر إلى القائمة والتحقق منها، فكان الغرض شرعيا تماما. كما دافعت عن من لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم، فكنت عضوا في لجنة القانون الجنائي في نقابة شيكاغو، وكثيرا ما كانت هناك ظروف معينة واضطرابات من جانب المتهمين الذين لم يكن لديهم محامون، فكنت أتطوع للدفاع عنهم مجانا. وقد يكون هذا العمل أقرب إلى ما كان يقوم به جدي في الصعيد في العشرينات والثلاثينات من القرن الماضي.
* السياسة والقانون
* عندما ذهبت إلى أفغانستان مثلا، جرى صراع كبير حول ما إذا كانوا سيؤسسون لجنة أم لا. وطبعا لم يكن الإميركيون راغبين في أن يرى أحد ما يحدث في عمليات تقصي الحقائق. وبدل «لجنة» أعطوني لقب «خبير مستقل» وحدي، وفعلوا معي مثلما فعلوا في يوغوسلافيا سابقا، لم يعطوني أي مقابل على عملي.
وأتذكر وقتها أني كنت في قطر، في دور دبلوماسي سياسي مهم جدا؛ حيث كان يوجد قائد من الشيشان طلب اللجوء السياسي في قطر، وكان يعيش هناك. وقتها قامت مجموعة من الشيشانيين باحتلال مدرسة في موسكو، وهددت بقتل 300 طفل. وفعلا ارتكبوا ذلك الفعل، وكان الموجودون داخل المدرسة على تواصل هاتفي مع الشخص الشيشاني اللاجئ في قطر بصفته قائدهم، وهو من أعطاهم الأمر بتفجير القنبلة وقتل الأطفال. طبعا، تأكدت أجهزة الأمن الروسية من هذه المعلومة، وطلبت من قطر تسليم ذلك الشخص، لكن قطر رفضت تسليمه. لم يعجب الأمر الروس الذين وأرادوا التصرف بأنفسهم، فأرسلوا اثنين من المخابرات مع تغطية دبلوماسية، وتمكنوا من معرفة خط سير هذا الرجل، وعرفوا أنه سيذهب إلى صلاة الجمعة، وأن ابنه سيكون السائق، وأنه سيجلس إلى جانبه. وقد أرادوا اغتياله من دون أن يتسببوا في إصابات أو خسائر أخرى. بعدما دخل المسجد، وضعوا قنبلة مؤقتة (مسيرة)، أسفل المكان الذي يجلس فيه، فلما خرج انفجرت القنبلة فمات، وأصيب ابنه في ذراعه اليمنى، وبعد ساعات ألقى القطريون القبض على الشخصين.
والقصة هي أنه عندما دخل هذان الشخصان إلى قطر، كانت المخابرات الأميركية تتتبعهما، حيث ظنت في البداية، أنهما قادمان للتجسس على قاعدتها العسكرية في قطر، فواصلت مراقبتهما لفترة ما، وبعد أن تيقنت أنهما ليسا هناك لهذه الغاية، أعطوا ما لديهم من معلومات للمخابرات القطرية التي لم تكن تربط بين وجودهما وهدفهما. ولما قتل القائد الشيشاني في الانفجار قبضوا عليهما؛ دخلوا السفارة على الرغم من الحصانة الدبلوماسية وقبضوا عليهما، وحوكما، وهو ما يخالف المعاهدة الدبلوماسية. احتجت روسيا على هذلك مما ولد أزمة. لكن أحدهم أشار على الرئيس بوتين بتعييني أنا محاميا عن الروس في قطر، لكي أحاول إيجاد مخرج للأزمة. وفعلا قمت بهذا الدور، على أساس أنه بدل أن تتأزم الحالة بين روسيا وقطر نجعل قطر تحاكمهما، من دون عقوبة إعدام بل بالسجن، وباتفاقية ثنائية ما بين قطر وروسيا. فكنت المحامي مع محام قطري للدفاع عن هذين الروسيين، ونفذ الاتفاق ولم تتأزم المشكلة بين روسيا وقطر، ومرت على هذا الأساس، وربما كان هذا ما يسمى «النفوذ» الذي تحدثنا عنه سابقا. انتهت الأزمة، وبكل أمانة، لم آخذ مكافأة مادية ولا معنوية على ذلك، ولم أتلق وساما من قطر.
المتلقي العادي لأية معلومات، لا يستطيع أن يستوعب أو يفهم ما يجري داخل الإدارات الحكومية والبيروقراطية الدولية. ما نراه من ناتج في الخارج، ليس هو ما يأتي من الداخل. ما نراه كثيرا ما يكون مسيسا وملونا ويصلنا كمعلومة من دون أن نفهمها، وكثيرا ما تكون الصورة ملونة لأسباب، وعلى سبيل المثال، فإن إنشاء لجنة تقصي حقائق عن الحرب في يوغوسلافيا، لم يتم بالصيغة التي أنشئت عليها، ومنحت لها كل الصلاحيات. فالرأي العام لن يعرف الحقيقة إلا إذا علم أن هيئة الأمم لم تخصص لها أية ميزانية للقيام بعملها.
وعندما يكون لديك لجنة مثل لجنة سوريا ولا تتحرك خارج جنيف، فكيف تتحرى عما يحصل داخل سوريا؟ تأخذ اللجنة معلوماتها من وسائل الإعلام ومنظمات حقوق الإنسان، وهذا ما يمكن للحكومات أن تنفيه وتكذبه. لذلك كنت أسعى في كل مهامي، إلى المعلومة المباشرة التي تأتي من الميدان الذي أذهب إليه. يوجد فارق كبير بين ما نراه ميدانيا وما يحدث في المكاتب العليا في الحكومات وغيره. ويمكن مقارنة ذلك مثلا بالميدان العسكري. فهناك فارق بين ما يرى الجندي أو الضابط الصغير في الميدان، وما يرى رؤساؤه في القوات المسلحة في مكاتبهم بعيدا عن الميدان. وبصفتي كنت ضابطا صغيرا (ملازم ثان)، تعودت أن أنظر إلى الأمور من الناحية الميدانية الواقعية، وليس من ناحية القيادة العسكرية العليا، التي تأتيها أرقام ولكنها لا تشعر بما هو موجود. كان مبدئي دائما، هو التحقق، كما كان عندما كنت في الجيش. إنني لا أستطيع إصدار أمر إلى أي شخص بالقيام بأي شيء، إلا إذا كنت أنا شخصيا أستطيع القيام به. يعني لا يمكنني أن أطلب من جندي أن يمشي 10 كيلومترات في اليوم في الصحراء، إلا إذا كنت أنا شخصيا أستطيع القيام بذلك. لكن إذا كان رئيس الأركان بعيدا عن الميدان يجلس في غرفة مكيفة، فإنه يستطيع أن يقول – نظريا - إن هذه القوة تستطيع الانتقال 10 كيلومترات في اليوم. الشيء نفسه مع من يتحدث عن جرائم من دون أن يشعر بقيمة الجريمة ويفهمها. وهو لن يستطيع فهم معناها لأن كثيرا من الأمور يحدث أثناء الحرب، لأن الطبيعة الإنسانية للأسف، لم تتغير كثيرا، فالإنسان لم يتغير. وظروف الحرب ومواجهة الموت والحاجة للبقاء تغير الإنسان، لذا يجب أخذ هذه الجوانب بعين الاعتبار وفهمها. أي إذا كان شخص ما في مكاني كرئيس للجنة معينة، عليه أن يجد توازنا بين وجوده في الميدان وإدارته لما يسري في الميدان، وفهمه لما يكون، وفهمه للمحققين الذين يعملون معه لكي يديرهم بطريقة سليمة، وفي الوقت نفسه فهمه للبعد السياسي، وكأن الواحد يغير «فيتيس» (ناقل الحركة) السيارة. حينما يكون في الميدان، يكون على «المارش الأول» ويمشي خطوة خطوة، وعلى «المارش السياسي» يضع «الفيتيس» على الرابع، وكأنه في الطريق السريع. من الناحية النفسية، الانتقال يسبب صعوبة نفسية ومعنوية، وإذا عزل الشخص نفسه عن مشاعره فقد آدميته.
سألت بسيوني عن أهم قصة مسته شخصيا وتركت أثرا في نفسه، فروى لي القصة التالية:
كنا في الميدان ذات يوم. كنا نقوم بالحفر بحثا عن مقبرة جماعية. وكان الصرب دائما يتهمونني بأنني أجد المقابر الجماعية للبوسنيين والمسلمين أو الكروات، وأنني منحاز إلى هذه الأطراف. وقد أبلغوني أنه في مكان يبعد 300 كلم عن مدينة زغرب في كرواتيا وفي وسط منطقة خالية، كانت ثمة منطقة يقطنها الصرب سابقا، وقد قام الكروات بتطهيرها عرقيا وأخرجوا سكانها منها. وقد أبلغتني الحكومة الصربية أن من غير المستيعد ان تكون هناك مقبرة جماعية تضم ألف شخص. كونت فريق عمل من 65 ضابطا وجنديا من الجيش الهولندي، وخمسة محققين من كندا والنرويج، وضباطا في الإدارة القانونية في هذه الجهات يعملون معي، وبعض الجهات الخارجية من الأطباء والعلماء الشرعيين. كان هذا بعد أن عثرنا على مقبرة جماعية في منطقة اسمها فوكوفار، كان فيها 204 كرواتيين كاثوليك، قتلوا من جانب الصرب. كانوا قد أخذوا وجمعوا معا وضربوا بالرصاص. ووجدنا أدلة على أن شخصا كان يطلق النار على رأس أي شخص إذا وجد أنه ما زال حيا. كانت تلك مقبرة بشعة بالفعل. بعد ذلك، علمنا أنهم أخذوا جميعا من مستشفى مدينة فوكوفار وقتلوا. كانوا جرحى ومرضى وقتلوا بتلك الطريقة. وكانت هذه المقبرة موضوع أكبر قضية في يوغوسلافيا فيما بعد، بنيت على ما اكتشفناه، لكني وجدت في الوقت نفسه، أن من الواجب البحث فعن المقبرة الجماعية التي أخبرني عنها الصرب. فذهبت إلى تلك المنطقة التي كان اسمها «بوليانا بكرتش»، وبعد البحث الطويل، لم نجد إلا مقبرة ك فيها 19 جثة، أخرجناها بالفعل، وبدأنا حفرية المقابر الجماعية مثل حفرية الآثار.
* عمل دقيق
* على الشخص أن يكون دقيقا جدا، ويعمل بحرص لكي لا يجري تحريك الجثث من مكانها. لا يمكنك العمل بوسائل قد تطال الجثة التي قد تتوفر حولها أدلة تقدم أدلة على الطريقة التي وجدت بها. في إحدى هذه الحفريات، كنت أنظر بعيدا، أتحدث إلى أحد الضباط الذين يعملون معي. وكانت هناك جثة لفت في بطانية. فتشت البطانية. كان من يعملون في الحفرة قد رفعوا عنه البطانية وكشفوا جثته وبان وجهه. وشاءت الظروف أن كانت جثته كاملة لم تتغير. كان في الثلاثينات، صغير الحجم نحيفا. كانت لذلك الرجل لحية صغيرة مثل لحية لينين، وكانت عيناه مفتوحتين. نظرت إليهما، فشعرت بهما تسألاني: لم أنت هنا؟ أين كنتم حين كانوا يقتلوننا؟ كان صاحب الجثة كمن خرج من عالم آخر ليعطيني رسالة: أين كان العالم حين كنا نموت؟ وهذه رسالة كل ضحايا العالم، بغض النظر عن الاعتبارات السياسية. هزني هذا المنظر تماما. قبلها بيوم، كانت تلقيت إشارة من الأمين العام للأمم المتحدة، تطلب مني مقابلته في نيويورك. أتممت عملي يومها، واستقليت بعد الظهر، سيارة نقلتني مسافة 300 كلم إلى زغرب، أخذت بعدها طائرة من هناك إلى فرانكفورت، ثم من فرنكفورت إلى نيويورك. كنت قادما من الميدان حيث نعمل منذ أسبوع، وأعيش في خيمة بقليل من الماء البارد، وأضيفت متاعب السفر إلى نيويورك إلى تلك المتاعب. وصلت بعد الظهر، وكان لي في صباح الغد، موعدا مع الأمين العام. ذهبت إلى موعدي مرهقا. رحب بي الأمين العام، وقال إن دولا كثيرة، بما في ذلك إنجلترا وصربيا وروسيا، تشكو من وجودك الدائم في الميدان، حيث يخلق لهم نوعا من الفزع. فلماذا تقوم بهذا الدور؟ أنت رئيس لجنة معينة من مجلس الأمن بدرجة أمين عام مساعد، ولك مكتب جميل جدا في الدور الخامس في هيئة الأمم في جنيف، يطل على بحيرة جنيف الجميلة. لماذا تعرض نفسك إلى كل هذا؟ وختم كلامه قائلا: يا شريف، إن كنت تقوم بمثل هذا الدور الرئيس وسط نزاع مسلح مهم له جوانب سياسية هامة «امش دائما وظهرك للحائط». أنت تعرض نفسك لانتقادات بسبب عملك الميداني، هذا ليس دورك. فأجبته بأنني أحاول التوفيق بين دوري كمحقق، وإدارة الناس الذين أعمل معهم. كما أحاول إزالة بعض العراقيل البيروقراطية في هيئة الأمم، وغياب الأمل. يجب أن أكون حريصا في المهام التي أقوم بها لأحصل على مساعدة الدول، على المستوى الثنائي. فقال لا، انتظر في جنيف وتأن. فخرجت من عنده وذهبت إلى شيكاغو حيث مقر المعلومات في الجامعة. في الطائرة، أغمضت عيني من شدة التعب. كنت أعيد الفيلم من فوكوفار من 204 إلى بوليانا بكرتش التي وجدنا فيها 19 صربيا، وكيف دفنهم الأردنيون ووضعوا صلبهم، و«لينين» الذي خرج من تحت الأرض ليسألني: لماذا تفعل البشرية هذا؟ والأمين العام الذي يقع مكتبه في الدور 38 على نهر في نيويورك بعيدا عن هذا المجال، ينصحني بـ«المشي بجوار الحائط». لم أدر بنفسي إلى أن لمست المضيفة كتفي تسألني إن كنت بخير، فتبين لي وقتها، أنني كنت أبكي، وأن سيلا من الدموع كان ينهمر من عيني ولم أشعر بذلك. كنت أبكي على هذه الأمور وعلى أمور الدنيا التي تفصل بين العدالة والسياسة.
والشيء نفسه يتكرر يوميا: ما الذي يحدث في النزاع بين أميركا وروسيا حول نظام بشار الأسد الذي أدى إلى مقتل 100 ألف. أريد أن أذكر بأن الله قال: (من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا). وقال كذلك: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا). هذا معناه أن الله لم يفرق بين المسلم وغير المسلم، ولا بين الرجل والمرأة. وقال: (ولقد كرمنا بني آدم)، ولم يقل المسلم أو غيره، ولا نرى هذا الآن. ونجد المسلمين - خاصة في العالم الإسلامي - يقتل بعضهم بعضا باسم الإسلام. وأختم بما ورد في سورة الرحمن: (فبأي آلاء ربكما تكذبان).

 





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً