العدد 4132 - الأحد 29 ديسمبر 2013م الموافق 25 صفر 1435هـ

العرب وجمهوريات الموز

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

جمهورية موز، مصطلح عمره أزيد من قرن وبضع سنين، وهو يُطلق «للتهكُّم» من دولة مَهِيضَة الجانب، وفاشلة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً. دولة تحكمها «الأقليات السياسية» ولا تمتلك شيئاً من الثروات الوطنية «لسوء الإدارة» و«الفساد».

الصِّين كانت تُسمَّى «جمهورية موز»! نعم، الصين ذات المساحة البالغة 9.640.821 كم، كانت تُسمى هكذا. هذا الوصف للصين لم يمضِ عليه وقت كثير. في العام 1894 دمَّرت اليابان القوات الصينية في كوريا، وأرغمتها على توقيع معاهدة شيمونسكي. ثم أمعنت في إذلالها في اتفاقية العام 1915، إلى أن احتلت اليابان منشوريا العام 1931.

قبل ذلك كله، عاشت الصين التخلف بفعل سوء إدارة الحكم الجينكي. أما اليوم، فإن الصين هي ثاني اقتصاد عالمي بعد الولايات المتحدة الأميركية. وهي متقدمة عن الدولة التي أنهكتها سياسياً وعسكرياً (اليابان). هذا الأمر ينطبق على دول كثيرة عانت نظمها السياسية وشعوبها الأمرَّيْن، لكنها اليوم لا تقل عن لقب «دولة متقدمة».

أوروبا، كانت مهداً للإقطاع وأسراب القناني، والظلم السياسي. كما أنها أذابت لحمها وطحنت عظامها في حروب دينية وسياسية، أفضت إلى أن يُصبح فيها أربعون مليون مُهَجَّر، واقتصاديات منهارة، ومجتمعات مفكَّكة، وهويات متناحرة، وقوميات بلا أوطان، وأديان غير هاجعة، فكان حالها أدنى من جمهورية موز. بعدها، أدرك الأوروبيون هول أوضاعهم، فاستداروا حول محنتهم، وبدأوا بالعمل مرةً أخرى، للنهوض كدول متقدمة.

هذا الأمر يدعونا إلى التساؤل والاستفهام لقراءة واقعنا ونحن في آخر يوميْن من عام سيمضي: لماذا نَجَحَ الآخرون في النهوض ولم ننجح نحن العرب (على الأقل بالنسبة لأكثرنا)؟ هذا السؤال عادةً ما يضغط علينا لكي نفهم حقيقة المشكلة.

نعم، نحن نمتلك ثروات وعمراناً وأشكالاً جميلة من الجامعات، لكن التجارب أعطتنا الحقيقة، وهي أن الحضارة لا تنهض بذلك فقط، بل بأشياء أخرى غير ذلك.

وقد وَجَدتُ أنه من المفيد، استعراض شيء من الإجابة على ذلك الاستفهام، من خلال التاريخ. تاريخ تلك الأمم وتجاربها، التي دُوِّنت قبل الصراعات والدماء المسفوحة وما بعدها، وكيف أسَّست مستقبلها وشكل إدارتها السياسية والاقتصادية والثقافية، والتي كانت هي الأساس في التغيير.

ودون أن نسرد ونستطرد في ذلك التاريخ ضمن هذه المقالة، فإنني أؤكد على ملاحظتين، أعتقد بأن لهما دوراً مهماً وأساسياً في تشكيل الدول الناجحة:

أولاً: يأتي السلام من الداخل فلا تبحث عنه في الخارج: هذه المقولة هي لجوتاما بوذا. ويُمكن إسقاطها على الصين كتجربة حكم فريدة. الصين بلدٌ شيوعي ومركزي في إدارته، لكنها لم تُرغم نفسها أن تكون نسخةً شيوعيةً من «الستالينية»، بل قامت بعملية تهجين لآيدلوجيتها، معتمدةً على مجتمعها وظروفها الخاصة.

هنا، أنقل تحليلاً لأحد العارفين، قدَّمه لي خلال إحدى المداولات أنقله للأمانة. هو يقول: «الحزب الشيوعي الصيني كان حزباً للبرجوازية الصغيرة وليس حزباً للطبقة العاملة، لأسباب تاريخية أولها منبته الاجتماعي الريفي ولضعف التطور في البنى الاقتصادية والصناعية بالذات».

«كان حجم الطبقة العاملة في الحزب الشيوعي الصيني لا تزيد عن 19 في المئة في العام 1973، وبالتدريج، بدأت تتضاعف مع الوقت، حيث كانت البرجوازية الفلاحية الريفية هي الطاغية على تركيبة الحزب». انتهى.

وفي الوقت ذاته، لم تنسَ الصين (رغم شيوعيتها الصينية) أنها تعيش في عالم تهيمن عليه الرأسمالية، والاشتراكية الاجتماعية، لذا، فإنها لم تتأفَّف وعبر زعيمها السابق دانغ شياو بينغ الذي قادها منذ العام 1978 ولغاية العام 1992، أن تنفتح على تلك الرأسمالية.

وحتى هونغ كونغ، التي استرجعتها الصين كمنطقة إدارية خاصة تابعة لها، أبقت عليها كنظام رأسمالي كامل الأركان على الرغم من تبعيتها لشيوعية ماو التاريخية، وبذلك أصبحت الصين تنظر بعين «شبه شيوعية»، وتتنفس برئة «شبه رأسمالية».

الأمر الآخر الذي التفت إليه الصينيون هو مسألة السلطة الرشيقة. فهم امتنعوا أن يحكموا أنفسهم من خلال زعماء مُحنَّطين أو مجرد مومياء. فدانغ (الذي ألهمها التطور الحالي) حَكَمَ لأربعة عشر عاماً. وجيانغ زيمين حَكَمَ لمدة عشرة أعوام. وهو جين تاو شي حَكَمَ لمدة عشرة أعوام. كما أنهم منحوا الأجيال الشابة فرصةً للحكم، وكافحوا الفساد بشكل صارم، حتى طال 540 ألف مسئول خلال العام الماضي.

ثانياً: لا قامات ولا أبناءٌ للذوات: هنا، نحاول أن نتحدث عن التجربة الأوروبية، في مسألة تحديث الدولة والمجتمع لديها. فالأوروبيون شيَّدوا مؤسساتهم السياسية على إنهاء الإقطاع، وعدم حماية النبلاء من القانون، ولجم شهوة السلطة، وصون حرية الشعب.

ومن المفيد هنا أن نُورِدَ تصحيحاً ذكره كونتن سكنر، وهو أن مدّ الحرية لم تأتِ به الثورة الفرنسية العام 1789 كما كان يُعتقد، بل إنه بدأ في النشوء والتطور منذ منتصف القرن الثاني عشر في شمال إيطاليا، والذي أسَّس لعدد من القواعد الديمقراطية والرقابية.

أكثر من ذلك، فإن المدن الإيطالية «الشمالية» لم تتخلَّ فقط عن قناصل الحكم كوريثٍ عن الحكام، بل اتجهت نحو النظام الانتخابي باكراً كما حصل في بيزا العام 1085، ثم في لومبارديا وتوسكانيا وميلان وأريزو وسيينا كما يذكر سكنر نفسه.

والحقيقة، أن لجم السلطة، وتقييدها وتكريس المساواة والمواطنة سبيلٌ أصيلٌ لضرب الفساد والمحسوبيات، وتكثير مراوح التهوية على الطبقات الاجتماعية المختلفة، وبالتالي، تذويب فرص اشتعال الأزمات والاختناقات السياسية، مع حماية للثروة العامة.

كان الأوروبيون يعتقدون بالتجربة السياسية التي أسسوها، والتي كانت بمثابة «مراقبة المرض» الذي يُوضع من أجله الإنسان على مسطرة المعاينة الدائمة في أكله وشربه كي يمسك بمسببات أسقامه. هذا بالضبط ما سعى إليه الأوروبيون حين توصلوا إلى أن هذه الصِيَغ من الحكم هي «أفضل الممكن» ومضوا عليها سيرةً بعد أخرى، وقرناً بعد آخر.

لقد حافظت أوروبا على هذا المنسوب من «شكل الدولة» حتى في أحلك ظروف الصراعات. بل إن قيمة تلك التجربة ظهرت عندما أسقط الصندوق الانتخابي رجالاً كان يُعتقد بأنهم آباء للتحرير، كما حصل لتشرشل في بريطانيا، وديغول في فرنسا.

في المحصلة، خيار أن يكون كثير من العرب «جمهورية موز» لازالت قائمة، لكن خيار أن لا ينزلقوا بقشرتها هو أمر ليس بمضمون. كل عام والقراء الكرام بألف خير.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 4132 - الأحد 29 ديسمبر 2013م الموافق 25 صفر 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 13 | 7:26 ص

      متابع ( 3 )

      محمد كريشان: شيئان نجيدهما نحن العرب كما لا تجيدهما أمة أخرى: شيطنة من نختلف معه و التبرير لمن نهواه، و كلاهما نفعله بشطط معيب.

    • زائر 12 | 7:24 ص

      متابع ( 2 )

      سألوا موسرجي إيش الفرق بين
      (الرئيس العربي والرئيس الأجنبي)
      قال : بالزبط زي الفرق بين الحمام العربي و الحمام الأفرنجي !
      قالوا : كيف يارجل فهمنا ؟!
      قال إذا بدك تغير الحمام الأفرنجي بتفك البراغي بس ..
      وإذا بدك تغيّر الحمام العربي لازم تكسر الحمام كله !!

    • زائر 11 | 6:54 ص

      متابع

      هل للثقافة العربية و طريقة التفكير العربي ( نتكلم عن الشارع ) دخل في هذا التأخر ؟ . . . . هل هناك ميزة لدى الأمم الأخرى في ثقافتها أو طريقة تفكيرها ؟

    • زائر 10 | 6:11 ص

      بغض الصناديق عند العرب

      العرب يكرهون الحريات واكبر مثال الانقلاب فى مصر .

    • زائر 9 | 2:51 ص

      مقال رائع

      هل نحن فى البحرين نعيش فى جمهورية موز ؟!!!

    • زائر 8 | 2:06 ص

      عزيزي الكاتب

      الموز يحتوي على عنصر البوتاسيوم بوفره, وبالتالي العنصر يلعب دورا هاما فى تنظيم ضغط الدم. الدول العربية بحاجه لهذا الموز من أجل البوتاسيوم, وإلا سيمر الشعب العربي بأرتفاع حاد في مستوى ضغط الدم.
      خلني أقول لك العبره من الأخير ... "الموز طعام الفلاسفه" واحنا غارقين بفلسفتنا الفاشلة الي سببها الموز.

    • زائر 7 | 1:52 ص

      الكلام للمجتمع أيضا

      يجب على المجتمع أن يناضل من أجل تغيير واقع جمهوريات الموز الذي نعيشه
      و لكن عليه أن لا ينتظر حتى يتغير حال الدولة بل عليه أن يستغل كل فرص النهوض و في هذا العصر امكانيات كبيرة للنهوض

    • زائر 6 | 1:17 ص

      الديمقراطية الحقيقية وليست البهرجة الإعلامية

      لن يتجاوزو مرحلة جمهوريات الموز اذا تركوا البحوث والعلوم والمعرفة وأغرقوا انفسهم في أوحال الطائفية والقبلية والعصبيات الجاهلية

    • زائر 5 | 12:40 ص

      ثناء

      مقالاتك دائما ممتازه .

    • زائر 4 | 12:25 ص

      مقال مختصر مفيد

      شكرًا استاد محمد على هدا المقال المفيد، ولكن هناك عامل اخر عالجته الدول الغربية لكي تنهض وهو تقليص الهيمنة الدينيه وأبعادها عن القرار السياسي. فهل نحن نتجرأ لطرح هدا العامل موازياً مع محاربة الاستبداد السياسي؟

    • زائر 15 زائر 4 | 11:36 ص

      تريث

      لا افراط ولا تفريط، صحيح ان ابعاد الدين في تلك الظروف كان امرا ناجحاً لأن الدين القائم انذاك ليس الدين ذاك المبدئي العيسوي الموسوي بينما ديننا الإسلامي لا تنطبق عليه تلك الاوصاف التي اتصفت بها تلك الاديان التي حرفت وابتعدت عن الاهداف السامية التي كانوا يدعوا لها الدين، نعم نحتاج لتصحيح بعض الدخائل التي دخلت في الاسلام وليس ابعاده

    • زائر 3 | 12:20 ص

      كل عام وانت بخير

      والخيرة فيما اختاره الله

    • زائر 2 | 12:10 ص

      أحسنت أخي محمد

      بورك فيك وبمدادك، أعجبني المقال كثيراً وهو للمُعتبر درس ثمين

    • زائر 1 | 11:54 م

      تحية صباحية ويوم سعيد

      في كل مقالاتك معلومة وفكرة وتأريخ ومنفعة . شكرا لك

اقرأ ايضاً