العدد 4152 - السبت 18 يناير 2014م الموافق 17 ربيع الاول 1435هـ

رغم رحيلكِ سأشكو إليكِ يا أمي

سهيلة آل صفر suhyla.alsafar [at] alwasatnews.com

كاتبة بحرينية

هذه رسالة أتتني من إحدى القارئات انقلها مع بعض التعديلات الطفيفة، كنت ألوم أمي دائماً إذا لم تفعل ما أحبه وأريد منها أن تتغير من أجلي وكنت أتوجع لأوجاعها وأبكي إذا ما مرضت لأنني أخاف فقدانها وأدركت أخيراً أنه علينا نحن بأن نتغير لنفهمها أكثر وأن نحبّ كل عيوبها! لأنها هكذا خلقت ولو تغيرت فستكون أماً اصطناعية!
لم أجد من أشكو إليه قسوة الأيام وجفافها إلا سواك يا أمي رغم رحيلك، ومع ذلك سأشكو إليك، علَّك تستجيبين، حتى ولو كان العون آتٍ من عالم الغيب!
وأبدأ بالقول بأنني اشتقت إليك يا أمي كثيراً، وخاصةً في هذا الشتاء البارد لأنه يذكرني بدفئك وبلمّتنا حولك والذي يتصادف به ذكرى رحيلك عن عالمنا المتعب المضني، مضت السنواتٍ وكأنها أبد الدهر.
أشياء كثيرة تبدلت! لو أن رحيلك تأخر قليلاً ومع تغير الأحداث وقسوة الأيام يا أمي، ولمعرفتي بك فأنت لن تحتملي دنيانا القاتمة ولتمنيت الرحيل قبل موعدك بسبب غربتنا في أوطاننا وأحوالنا المعوجة وحتى مع أبنائنا!
كنت دائماً تقولين الله لا يغيْر علينا، وأن يحرس بحريننا وأن نعيش بأمان، ويا ليتك ترين ما حصل في ديارنا وكيف أن الثورة قد غيرت القلوب وفرقت الأحباب، حتى بين العائلة الواحدة، أحياناً وكيف أضحينا نخاف ونتجنب بعضنا! ولا نشتري أو نتعاطى مع مجاميعنا بسبب الخلافات الدينية والسياسية وأضاعت أشياء أخرى بالمدنية والتكنولوجيا الحديثة والمخادعة!
والتي رغم كثرتها وتنوعها فقد خفتت فيها العلاقات الإنسانية وقل الكلام بين البشر وأصبح أبناؤنا يعيشون في عوالم قشرية، وابتعدوا عن ذويهم الذين بذلوا الغالي والنفيس من أجل مأكلهم ودراستهم ومعيشتهم، وأصبح الإنكار والابتعاد وسيلتهم مع غدر الوحدة والأزمان، تناسوهم وباعدوا زياراتهم ووضعوهم على رفوف النسيان، وفي انتظار رحيلهم.
انشغلوا عنا يا أمي بأصدقائهم، وأضحت الصداقات كل حياتهم، وبالنقال قد عميت واغرورقت عيونهم يأ أمي وبالچات على الإنترنت وزيارة المطاعم والدليڤري، والابتعاد عن البيوت، وانشغلوا بألعاب الڤيديو ومباريات الكرة وتوافه الحياة الأخرى المخجلة.
لم أعرف أنني لن أراك بعد الوداع الأخير، إنك تأتينني في المنام كالملاك البشوش لتواسيني من وحشة الأيام، وأرى وجهك الحنون الجميل مضيئاً بالأنوار!
يزداد اشتياقي إليك كثيراً يا أمي حينما تشتد أزماتي! وأفتش عن صدرك الحنون ليحتويني وأنت تشجعيني على الصمود والشجاعة وبأن أؤجل الزعل وأتسامح وأغفر للآخرين أخطاءهم!
اشتاق إليك في ليالي الشتاء الباردة... حينما ترفعين شالك وتدثريني به، ما أجمل دفئك يا أمي وهو أحلى من ألف حضنٍ! أتذكرك وأنت مع كاسات الشاي والكاكاو والمحلبية والدارسين تحملينها لي ولإخوتي لتدفئي بها حياتنا وليالينا!
ومأكولات الشتاء تصنعينها بيديك الكريمتين من الشوربات وتدليليننا بكل ما تستطيعين يأ أمي، لن أنسى صوتك الحنون وأنا طفلة تداعبيني في طريق المدرسة قائلة، لا تخافي سأكون في انتظارك بعد قليلٍ،، ووجهك الجميل الضاحك والبشوش دائماً وهو يطمئنني كي لا أخاف أو أقلق، وأشعر بالأمان حينها فأترك يداك وأنتظر رجوعك كي أفرح وأستقوي على تحمل آلام فراقك!
إن وجودك في الحياة كان بمثابة صمام الأمان والاستقرار يا أمي وأضعت طريقي بعدك صدقيني!
تعلمت منك كثيراً، حينما كنت أساعدك في البيت وكم كنت أخاف عليك أيضاً أن تتعبي أو تمرضي.
لن أنسى حنانك وحبك لشراء احتياجاتي وشرائط شعري الملونة والتي كنت أعشقها وأنت تجدلينها بشعري الطويل، وفساتيني التي كنت تخيطينها بيديك الحنونتين ومهارتك وإصرارك على تعليمي كل ما تعرفين حتى الخياطة، وكنت نعم الأم المثالية والتي أعطت كل ما تستطيعه ولم تقصر، فنحن لا نطلب المستحيل أو الكمال.
إنه أكبر عرفانٍ بالجميل لو أنها أخطأت ولم تنل ما تريد، أو حتى لو أنها تقاعست أو وبختنا أو وعزت إلينا لتجعلنا نستقيم، ما دامت الأم تعطي ما تراه وما تستطيع فهي الأمن والمشورة والأمان، فهم يشبهون الملائكة والفرق بأنهم يخطئون وليس من حقنا مقاضاتهم أو محاسبتهم لأنهم بأحاسيسٍ مخلصة يعطوننا ما نريد.
وكم بكيت في وحدتي وفي اشتياقي إلى وجهك الجميل حينما سافرت للدارسة في خارج البلاد، وباركت شهادتي وبأنني طبيبةً أصبحت، وأنك بفخرٍ قلت لكل الجيران، ولن أنسى اهتمامك الشديد بأطفالي وحبك لهم ومراعاتهم في مأكلهم وصحتهم ومرضهم لأنهم امتداد مني وفي تواجدي.
إنني آسف يا أمي الحنون إذ لم أنصفك أو أعطيك حقك من الوقت والتقدير، وكم أنا نادمة إذا لم أدلّلك بقدر نصف تدليلك لي، وأنت ترعاني وتربيني.
وسامحيني إذا لم أقل ما تستحقين من عبارات المحبة والتقدير، ليس لأنني مجحفة! أستغفر الله! وإنما ربما لانشغالي الشديد، بحياتي وعملي وعائلتي الصغيرة، على رغم أنك كنت تدورين في أفلاكي دائماً وأنت على رأس قائمة أحبائي وأولوياتي، ولكنني لم أعطِك حقك من الرعاية والتقدير.
وإنني وللأمانة لم أعرف كيف أواسيها وأهتم بقدرها ودون تقصير وأيضاً لانشغالي الشديد، لم أعرف كم كنت تتوجعين من الوحدة، وأفهم الآن لماذا كنت تريدينا حولك! دائماً لم أكن أعي حينها قسوة الأيام، وحينما تنال منا الشيخوخة مع أوجاعها المرضية والنفسية! وأنا أحاول للأخذ بيديك وتقويتك للصمود أمام المرحلة المقبلة من وحدة الأيام والعيش معنا وأنت تصرّين بمفردك العيش في بيتك القديم.
لم أدرِ بأن تجاربك في الحياة جعلتك تفضلين العيش بعيداً عنا! أهي الكرامة الموجعة أم هو حب الذكريات والمكان، وإن حدسك فيما ترين يملؤه الحكمة والاتزان! وإن إرضاء البشر والأبناء هو شيء لن يحدث وهو من دروب المستحيل.
إنني أخطأت يا أمي، حينما لم أقدر أو أتخذ نصائحك وخبراتك للتعامل مع أبنائي وأخطأت حينما تصورت بأنني متطورة عنك بأزمان، وكم تندمت على ذلك لأن معظم الأحداث تتكرر وتعيد نفسها مع الأزمان!
فيا ليتك تعودين ولو لبضع دقائق يا أمي لأعوضك وأصحح كل الأخطاء التي اقترفتها وبجهلٍ واضحٍ وقلة نضجٍ! ولأقول لك كم أحببتك يا أمي وكم خانني التعبير!
وسامحيني ثانية إذا ما أتعبتك في النقاش والرفض والثورة على التقاليد القديمة، لأنني لم أعرف المجاملة! ربما لجهلي في أمور الحياة وقلة خبرتي في الحوار والأخذ والعطاء! ولأُريكِ كيف تغيرتُ وصحوتُ من غفلتي! وكنت مغيبة عن جمائلك ومحبتك وحنانك وعن كل ما قمت به من أجلي يا أعظم إنسانه في الكون والوجود وياليتنا نتعظ جميعاً ونعرف قدر أمهاتنا وآبائنا وأن ننعم بوجودهم قبل رحيلهم وأن نعتذر لهم عن تقصيرنا وأخطائنا.
وإننا نحمد نعمة تواجدهم حولنا، ونعرف بأنها لن تدوم لأحدٍ، وإذا غادرونا فنحن لن نراهم ثانية! فهم السابقون ونحن اللاحقون، شئنا ذلك أم أبينا.
وإننا لن نجد صدراً ولا حناناً يتفوق على محبتهم لنا مهما بحثنا في هذا الوجود ومازلت يا أمي أفتش عنك.

إقرأ أيضا لـ "سهيلة آل صفر"

العدد 4152 - السبت 18 يناير 2014م الموافق 17 ربيع الاول 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 10 | 1:28 م

      كل الاشياء تتكرر

      لو اننا نعرف بان مانفعله بأهالينا يعود علينا لما فعلنا مانفعله من انقطاع الود والزعل وبهدلة أهالينا واهمالهم لان كل شيئ يراه اطفالنا سيعاملوننا مثله بالضبط وسوف يقتطعوننا مثلما قاطعنا او عذبنا اهالينا فهم المرصد الذي يرصد ومن ثم يقلد

    • زائر 9 | 4:09 ص

      مقال يحاكي المتغيرات التي مررنا و نمر بها في زماننا..

      للأسف كل شيء تغير بفعل التعامل الخاطأ مع التكنلوجيا الحديثة التي بين أيدينا .. ففي أيامنا هذه الأم تدلل أبناءها من المطعم ليس الوجبات السريعة فقط بل حتى الهريسة و العصيدة و البلاليط و اللقيمات من المطعم .. و صارت صلة الأرحام عبر الواتسأب و الإنستقرام و حتى لو اجتمعت العائلة في مكان واحد تجد أن أغلب الموجودين منشغلين بهواتفهم الذكية الشخصية ليس ممن يجلس معهم بل حتى عن أطفالهم الرضع و الذين بدأو يحبون ..

    • زائر 8 | 3:59 ص

      الأبناء في البحرين لايعرفون قراءة الصحف

      هل سيقرأ الأبناء هذه الرسالة الجميلة، نشك انها ستصل للمعنيين..

    • زائر 7 | 3:39 ص

      الى امي

      أحنّ إلى خبز أمي
      و قهوة أمي
      و لمسة أمي
      و تكبر في الطفولة
      يوما على صدر يوم
      و أعشق عمري لأني
      إذا متّ،
      أخجل من دمع أمي!
      خذيني ،إذا عدت يوما
      وشاحا لهدبك
      و غطّي عظامي بعشب
      تعمّد من طهر كعبك
      و شدّي وثاقي..
      بخصلة شعر
      بخيط يلوّح في ذيل ثوبك..
      إذا ما لمست قرارة قلبك!
      ضعيني، إذا ما رجعت
      وقودا بتنور نارك..
      وحبل غسيل على سطح دارك
      لأني فقدت الوقوف
      بدون صلاة نهارك
      هرمت ،فردّي نجوم الطفولة

    • زائر 6 | 2:37 ص

      لقد اجريت دموعنا

      يادكتوره شكرا للمقال وشكرا لمن بعث اليك بهذه الرسالة فهي رسالة عظمة الام وان الام والاب لا يعرف قدرهما الا بعد ان يفارقوننا فاللي عنده ام عليه بزيارتها يوميا للتزود من معين الحب والحنان وكذا بالنسبه للاب الله يحفظ امهات واباء الجميع مع تحياتي

    • زائر 5 | 2:20 ص

      أمك أمك أمك

      قالها ثلاثا نبي الرحمة (ص) وذلك تأكيدا على مكانتها الرفيعة ودورها العظيم فهي الحاضنة والظل والدفأ والعين الساهرة ... معاك حق دكتورة انك نقلت تلك الرسالة المعبرة .

    • زائر 4 | 2:11 ص

      الله يرحم والدتي ووالدي وجميع المؤمنين والمؤمنات

      اولادنا منشغلون جدا جدا بحياتهم الفوضويه وعلى اولياء الامور تذكيرهم بالصلاة وزيارة صلة الارحام واداء الاحترام للجيران وووو...والا ضاع كل الجهود لانهم جيل لا يعرف الالتزامات

    • زائر 3 | 12:35 ص

      رائع

      كلام رائع والله كله حكم علك تدرين كم وتراً أصبت وعيناي تدمعان من فراقها وهى اعظم من الدنيا نفسها

    • زائر 2 | 11:25 م

      رسالة صادقه ومعبرة

      خير فعلت هذه المراه بانها باحت بما يختلج صدرها من اهات وعبرات وعبر.
      الام هي الحب الذي لاينضب هي شعاع جميل ننظر اليه كلما اشتدت بنا الازمات والمحن الحضن الدافىء الذي لايرجوا منا مصلحة مادية.
      شكرا لكي امي والله يديمك لنا ذخر انتي كالخيمة تجمعنا تحت ظلالها وكعمود يحفظ جمعتنا من الانهيار.

    • زائر 1 | 9:48 م

      كلام من ذهب

      صدقتي في كل ما قلتي كان لسان حالي يتكلم أحبكي امي واطلب من الله الرحمة والمغفرة لك ولجميع المؤمنين والمؤمنات اللهم آمين..

اقرأ ايضاً