العدد 4238 - الإثنين 14 أبريل 2014م الموافق 14 جمادى الآخرة 1435هـ

حجي عبدالله البريطاني

محمد حميد السلمان comments [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

كتب إلى ابنته العام 1940 يقول «بوسعي فقط أن أعيش الأمل بأن كل الأمر لن يكون سيء الوقع على أطفالك، والذين لا يستحقون لوماً تجاه الفوضى والإزعاج الذي يسيء إلى عالم اليوم».

بينما كتب عنه أحد الروائيين: «هو رجل يعرف عن السعودية أكثر من أي إنسان على قيد الحياة. وهو بمثابة الساعد الأيمن للملك. ولا توجد لهجة في السعودية لا يتحدثها، مثله مثل أي عربي من مواليد البلد، وقد اعتنق الإسلام مؤخرا».

وقبل ذلك لنقرأ هذه الوثيقة البريطانية من المخابرات الكينية:

وثيقة رقم (A36)

التاريخ: 7 أيار/ مايو 1938

الموضوع: شئون عربية

مصدر الأصل: تقرير المخابرات الكينية

«قيل أن مستر سانت جون فليبي، موظف الخدمة المدنية الهندية السابق، والذي اعتنق الإسلام وأقام بالعربية السعودية، قد فقد الكثير من التأثير الذي كان له يوماً مع الملك. أسباب ذلك لم يعلن عنها على أية حال».

إذن نحن أمام شخصية المدعو (هاري سانت جون بروجر فيلبي)، وهو مثل لمعظم الشخصيات الانجليزية التي دخلت البلاد العربية لأغراض محددة وواضحة، وأقنعت العديد من الزعماء والحكومات العربية في فترة الهيمنة البريطانية الاستعمارية على المنطقة، وبالذات شرق السويس كما كان يُطلق عليها آنذاك؛ بمواهبها الخارقة وقدراتها اللامعة في القيادة، وتدبير السياسة. وكثير من هؤلاء، كما هو لورنس العرب كما قيل، تغلغلوا بين ثنايا المجتمع العربي وصاروا جزءاً من جلدته ولغته، وربما دينه، لا اقتناعاً بالعرب ولا بأهميتهم الحضارية، بل لغايات وأهداف وضعتها السياسة البريطانية لعملائها، وإن تسمّوا بأسماء العرب وأصبحوا حجاجاً كما هو الحاج «عبدالله فيلبي» البريطاني.

واليوم لا تختلف قصة أمثال هؤلاء العملاء ومهامهم عن أولئك، إلا في أمر واحد فقط، وهو أن سفاراتهم، أو مناصب التدريب والخبراء هنا وهناك، هي التي تغطي أعمالهم الأساسية التي أرسلوا من أجلها لضبط البوصلة السياسية المحلية في المنطقة بألا تؤشر إلا في اتجاه العالم الغربي، ولا تحيد عن مصالحه قيد أُنملة، وإلا...!

وصاحبنا هذا الذي فرح بعض العرب به لأنه صار «حجي عبدالله» العام 1930؛ تبدّلت أدواره عدة مرات في المنطقة الخليجية خلال ثلاثين عاماً من القرن العشرين، كما قام برحلة غريبة خلال الحرب العالمية الأولي بين عامي 1916-1917، عبر فيها صحراء شبه الجزيرة العربية من البحر إلى البحر، وقدّم وصفاً لها في كتابه «قلب السعودية» العام 1922؛ ومع ذلك فلم يعجب ضابط الأمن الدفاعي في حكومة فلسطين البريطانية العام 1947 أن يتم وصفه بأنه في «عظمة لورنس» بسبب عمله البطولي جراء رحلته تلك.

وقد صدر مع مطلع هذا العام أحدث كتاب عنه تحت عنوان «قصة عبدالله فيلبي من وثائق المخابرات البريطانية»، وهو عبارة عن تجميع لمقالات صحافية قام بترجمة وثائقها السوداني حسن ساتي بين عامي 2002 و2003.

وفيلبي هذا، هو ابن أحد المستعمرين البريطانيين بجزيرة سيلان، كان أبوه من مزارعي الشاي البريطانيين هناك. ولأن والده بعقليته الاستعمارية يعلم بأن سيلان هي للاستغلال وليست للعلم، انتقل لبريطانيا وأنهى دراسته ونال درجةً في اللغات الشرقية من جامعة أكسفورد العام 1907. وعمل نحو سبع سنوات في خدمة حكومة الهند، ثم جندته سلطات الاستعمار البريطاني فوصل إلى البصرة العام 1915 واستُخدم في مهام سياسية لقوات الاحتلال البريطانية هناك. ونظراً لخدماته، عُيّن مستشاراً لوزارة الداخلية إبان الحقبة البريطانية في العراق.

وفي العام 1917 تلقى أوامر من المخابرات البريطانية بالذهاب إلى نجد للتجسس، ولمعرفة الوضع السياسي هناك. فقابل الملك عبد العزيز آل سعود في الرياض العام 1919. ثم رحل إلى وادي الدواسر، حيث جمع معلومات علمية وجغرافية قيّمة، ثم ذهب إلى عُمان ليتقلد منصباً حكومياً.

وهكذا بقي يعمل لمصلحة بريطانيا العظمي في كل مكان بسبب إجادته لعدة لغات شرقية، والأدهى أنه بعد كل ما عمله ضد البلاد العربية من أجل مصلحة بلاده فقط، سافر إلى لبنان العام 1955، وانتدب للعمل في الجامعة الأميركية في بيروت أستاذاً زائراً العام 1957! وظلّ بها إلى أن توفي العام 1960.

ولسنا بصدد تكرار ما هو منشور في الكتاب المذكور، ولا استعراض ما قام به «حجي فيلبي»، فقصة الرجل متداولة ومعروفة مسبقاً، ولكن ما كُشف عنه في ترجمة الوثائق هو الجزء المتعلق بملفين فقط عن «هاري فيلبي»، أفرج عنهما لأول مرة مكتب السجلات العامة والأرشيف القومي ببريطانيا ضمن عدد 311 ملفاً عن العملاء والنشاط الاستخباراتي حول العالم إبان حقبة الاستعمار البريطاني. وفي هذين الملفين، كما ذكر المترجم، توجد 236 وثيقة، تكشف عن شخصيةٍ دار حولها الكثير من الجدل والتقديس المتعمد، ليظهر أمثاله وكأنهم قديسون أو ملائكة، وأنهم عباقرة زمانهم والعرب من حولهم نيام، أو نعاج تُقاد بيد أولئك العملاء المحنّكين والمدربين جيداً.

فإذا كان مجرد عميل واحد أفرج عن ملفين من ملفاته العديدة وُجد بها 236 وثيقة، فماذا عن الـ 309 ملفات المتبقية من تلك المجموعة؟ وهل بينها عملاء آخرون ساهموا في اللعب بتاريخ الوطن العربي وتغيير مسارات مفصلية به، كما كشفته هاتان الوثيقتان للحاج «فيلبي» عن وجود خطة جاهزة لحكومة العمال البريطانية حينها، توحي بتقسيم السعودية إلى عدة كيانات. فما أشبه الليلة بالبارحة والبعض مازال يتولى هؤلاء الأجانب ويتخذهم أصدقاء حميمين يخافون على مصالحنا أكثر من غيرهم!

إن ما يجب أن نستفيد منه حقاً، ونحن نقرأ أمثال هذه الوثائق، هو إعادة النظر في تاريخنا الذي لعبت به أفكار ونظريات أمثال هؤلاء، بل وإعادة تدوينه بكل شفافية، ودونما انتقائية مؤرّخي البلاط، ودون حجب الوثائق بحجة صعوبة عرضها انطلاقاً من صعوبة اتخاذ منهج يعتمد على التاريخ فقط في عرض ما يصلنا من الوثائق؟ بل إذا كنا نروم الحقيقة، لابد أن نقوم بضخ مثل هذه الوثائق ضمن مناهجنا، وفي عقول طلبتنا، وندرّبهم على كيفية القراءة الصحيحة للتاريخ وحقائقه المؤكدة، وتحليلها بدقة وموضوعية متناهية. وبذا نرسخ فيهم أصول البحث العلمي الدقيق، ونحصنهم، وهم في مواقع المسئولية السياسية مستقبلاً، ضد ما هو آتٍ لهم حتماً من وراء البحار من تلك القوى الكبرى التي مازالت تحيك نفس الخيوط، لنفس الشرنقة التي تريد أن تحبسنا بداخلها إلى الأبد. فمن يتعض ومن يريد أن يتعلم الدروس قبل أن تغدو ذات أسعار باهظة جداً؟

إقرأ أيضا لـ "محمد حميد السلمان"

العدد 4238 - الإثنين 14 أبريل 2014م الموافق 14 جمادى الآخرة 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 10:44 ص

      لمن تقرأمزاميرك يا أيوب

      من هو المسؤل عن كل ذلك الحكومات أم الشعوب ومن يوجه دفة من ؟ تحن داخل شرنقة كلما اردنا الخروج تم إعادتتا للشرنقة

اقرأ ايضاً