العدد 4240 - الأربعاء 16 أبريل 2014م الموافق 16 جمادى الآخرة 1435هـ

بين تُخمَة شَبَعِكم وسَغْبَة جوعهم

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

ذَكَرَت إحدى الصحف، أن كريمة الرئيس النيجيري جودلاك جوناثان واسمها فايث، قد تزوَّجت قبل أيام من شاب اسمه جودزويل أوسيم إدوارد. الخبر ليس مثيراً بحد ذاته، لكن الإثارة جاءت، عندما ذُكِرَ أنه وخلال حفل الزواج ذاك، تم توزيع هواتف ذكية «مُرصَّعة بالذهب هدايا للضيوف» في علبٍ بيضاء، وقد كُتِبَ عليها: «شكراً على حضوركم».

الخبر أشار إلى أن الهدايا قد صُمِّمَت بهذه الطريقة الغريبة على يد مُصَمِّم التحف الفاخرة مايكل آكا ماليفيلهود. ثم قيل، إن تلك الهواتف، لم يُقدِّمها الرئيس جوناثان، بل قدمها ماليفيلهود نفسه بحسب صحيفة «ديلي بوست» النيجيرية، الذي تمنَّى أيضاً «أن يكون الرئيس قد حصل على هاتف» منهم، خلال حديث معه عبر برنامج «بي بي إم».

في كل الأحوال، الهواتف المُرصَّعة بالذهب قُدِّمت. وتسلمها «مَنْ حضر» لا لكتابٍ ألَّفوه، ولا لنظرية علمية ابتكروها، ولا لخدمة اجتماعية أسدوها، بل لأنهم حضروا مراسم زواج!

لن نتحدث عن تسلسل نيجيريا كمركز عاشر في احتياطي النفط، ولا الثامن في إنتاجه، ولا الثاني عشر في احتياطي الغاز، بل نتحدث عن أن دخل نحو 100 مليون نيجيري هو أقل من دولار واحد يوميّاً، وأن ثمانين مليون نيجيري هم من دون كهرباء، كما ذكرت ذلك «رويترز».

ذكرتُ ما جرى خلال حفل زواج «فايث» لكي أعرِّج على أحوال شبيهة في بلدان عربية وإسلامية. فما جرى في نيجيريا، قد يكون بمستوى كَسْر عشري، أمام ما يجري في عدد آخر من البلدان، ممن حباها الله في جوف ترابها خيراً كثيراً. وربما مرَّ علينا (قراءة ومشاهدة) حوادث لا حصر لها عن تبذير الحكام على ملذاتهم وبنيهم، من مأكل ومشرب وترحال ورفاهة ولِيْن عيش، في الوقت الذي يوجد بجوارهم مَنْ يحتاج إلى حبة دواء تُسكِّن آلامه.

هناك مَنْ لم يلبس الجديد منذ أمَدْ، وهناك مَنْ لا يلبس المُكرَّر من الثياب مطلقاً! إنها معادلة خطيرة، تُدلِّل على حجم الفروق الاجتماعية «غير الطبيعية» التي جَعَلت من الناس فسطاطين، ومنازل ودرجات ليس في العلم بل في المال والحظوة. ثم تشتكي بعض الأنظمة الحاكمة، من حالات غضب اجتماعي، واندفاع شعبي نحو الاحتجاج والغضب!

سمعت من المرحوم عبدالرحمن السميط، أنه أجرى دراسة حسابية، مفادها أن زكاة أربعة من الأسواق المالية الخليجية للأسهم، كفيلة بإطعام جميع فقراء العالم، وليس المسلمين فقط. وكان يقول إن مئة ألف طفل يُصابون بالعمى الدائم سنويّاً في الصحراء الكبرى بسبب نقص في فيتامين (أ) الذي لا تزيد جرعة دوائه على فلس واحد!

إن الحكم العادل لا يتحقق بمانشيت على صحيفة، ولا بلقلقة لسان في محفل يعج بالتصفيق، ولا حتى بنص دستوري، إنما عبر ممارسته فعلاً. أن نحكم بمسئولية، ونتحدث بصدق. فذلك عليه حساب سماوي: «وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ» (الصافات: الآية 24). وعندما يتحقق ذلك، تتحقق معه أشياء كثيرة، من ضمنها الأمن والسعادة وهي الأهم.

هؤلاء، الذي يعتقدون أن الحكم يعني التمايز المطلق عن الناس في إنفاق المال وتبذيره، والخوض في الملذات التي يوفرها، هم مخطئون ومذنبون كذلك. أتذكر مرة، أن أستاذ علم النفس في سوارثمور كوليج، باري شوارتز كَتب في «فورين بوليسي» يقول: «تعلَّم علماء النفس وعلماء اجتماع آخرون، أنه في المجتمعات الميسورة، لا يَشتَرِي المال السعادة، بل إن الأمور التي تمارس تأثيراً أكبر من المال في رفاهية الإنسان هي: العلاقات الوثيقة مع العائلة والأصدقاء والعمل الذي يحمل لصاحبه معنى، والأمن الوظيفي والديمقراطية».

وربما كانت الكلمة الأخيرة لشوارتز مدعاة للتأمل. فالحكم الرشيد، هو أفضل السبل نحو تحقيق السعادة الذاتية والخارجية، وبناء محيط من الأمان السياسي والاجتماعي والاقتصادي في الدول والمجتمعات. أما إذا حدث العكس، فلا أعتقد أن شيئاً من ذلك سيتحقق لتماسك النظم. وقد حَفِلَ التاريخ العربي والإسلامي بحوادث كثيرة دلَّت على ذلك الربط، سواء في انهيار الدولتين الأموية والعباسية أو في غيرهما من الدول في الشرق.

وربما من المفيد أن أذكر حادثة من التراث المدوَّن، حول ضياع المال العام على الترف، وتأثير ذلك على مستقبل الحكم. فقد ذكر التنوخي في «نشوار المحاضرة» ووردت في المستطرف الجديد، عن أحد الخلفاء العباسيين، اشتهى مرة أن يجعلَ كلَّ ما تقع عليه عيناهُ في يومٍ من أيام شُربِه «أصفر اللون». فَنُصِبَت له قُبَّة صَندَل مُذهَّبةٌ مُجلَّلَةٌ ومفروشة بديباجٍ أصفر، وجُعِلَ بين يديه الأترج الأصفر، وشرابٌ أصفر في صواني ذهب. ولم يُحضَر من جواريه إلاَّ الصُّفر، عليهنَّ ثياب قصب صُفر.

وكانت القبَّة منصوبة على بركةٍ مُرصَّصةٍ يجري فيها الماء. فأمرَ أن يُجعَل في مجاري الماء إليها الزعفران ليصفرّ الماء ويجري على البركة. وطالَ جُلوسُهُ وشُربه، فَنَفدَ ما كان عندهم من الزعفران، فاستعمَلوا العُصْفُر (الذي يُصبَغ به)، ولم يُقَدِّروا أنه سَيَنفَد قبل سَكَرِه فيشترون منه، فَنَفَد، فلما لم يَبْقَ إلاَّ القليل، عَرَّفوهُ وخافوا أن يغضب إِنْ انقطعَ، ولا يُمكنهم قِصَرُ الوقت مِنْ شَرْيِ ذلك من السوق.

فلما أخبروه أنكر وقال: لِمَ لم يشتروا أمراً عظيماً؟ الآن، إنْ انقطَعَ هذا تَنغَّصَ يومي، فخُذوا الثياب المُعَصْفَرَة القصب، فانقعوها في مجرى الماء... ووافَقَ سَكَرُهُ مع نفادِ كلِّ ما كان في الخزائن من هذه الثياب!

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 4240 - الأربعاء 16 أبريل 2014م الموافق 16 جمادى الآخرة 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 3 | 10:49 ص

      رائع

      لك زاوية خاصة في طرحك للواقع.. راقي جدا ما تقدمه للقارئ..

    • زائر 2 | 9:10 ص

      متابع

      أنفقت دول العالم في عام 2012 حوالي 1735 مليار دولار على شراء الصواريخ وصفقات الاسلحة . . . . . . . . . بينما كان يحتاج سكان العالم الى حوالي 195 مليار دولار فقط للقضاء على الفقر المدقع تماماً !! . . . . . . شىء غريب ومحير فى هذا العالم ! اليس كذلك ?

اقرأ ايضاً