العدد 4242 - الجمعة 18 أبريل 2014م الموافق 18 جمادى الآخرة 1435هـ

احتلالٌ «وطني» واحتلالٌ «أجنبي»

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

العمالة، أو عملاء الإمبريالية، أو أبناء وبقايا الاستعمار. هي كلمات لطالما طَرَب لها أدب القومية العربية، منذ خمسينيات القرن الماضي. وعندما حصل احتلال العراق، أضيف لها شعار: عملاء الأميركان، الآتين إلى الحكم عبر الدبابة الأميركية. ثم عمَّدها العقيد معمَّر القذافي بـ «جرذان الناتو»، عندما ثار الليبيون عليه في السابع عشر من فبراير 2011.

قبل كل شيء، يجب أن أشير، إلى أن لفظة استعمار، لا تتناسب مطلقاً مع ما تعنيه الكلمة، وما نرمي نحن إليه، باحتلالنا سياسياً وعسكرياً واقتصادياً وثقافياً. ففي اللغة، «أعْمَرَهُ المكانَ واسْتَعْمَرَهُ فيه: جعلَهُ يَعْمُرُه». وفي القرآن الكريم: «هُوَ أَنشأَكُم مِنَ الأَرْضِ واسْتَعْمَرَكُمْ فيها»؛ «أَي أَذِن لكم في عِمارتها واستخراجِ قومِكم منها وجعَلَكم عُمَّارَها» كما جاء في قواميس اللغة العربية.

إذاً، لفظة استعمار ليست دقيقة، وربما تلقيناها على عواهنها ساسةً ومثقفين، ممَّن جاء إلينا بجيوشه، طمعاً منه في شرعنة شعاره قبل فعله. نعم، حين نقول: احتلال، فهي أسلَم، فـ «حَلَّ بالمكان يَحُلُّ حُلولاً: وذلك نزول القوم بمَحَلَّة وهو نقيض الارتحال». «وحَلَّه واحْتَلَّ به واحْتَلَّه: نزل به. وكذلك حَلَّ بالقوم وحَلَّهُم واحْتَلَّ بهم، واحْتَلَّهم.

أرجع الآن إلى خيط هذه المقالة، وهي مسألة العمالة، فقد أظهرت الأحداث السياسية، أن العمالة لم تعد تحمل تفسيراً واحداً. بمعنى، قد يكون هناك عمالة محرمة، ومذمومة ومستهجنة، وتخضع للمحاسبة الشعبية والسياسية والقانونية، وفي نفس الوقت توجد عمالة جائزة ومطلوبة وليس بها مذمَّة ولا اتهام! هذا الأمر لا يبدو غريباً بعد أن بات حقيقة واقعة، لا يسترها شيء.

شخصياً، أزعم أن احتلال العراق غيَّر الكثير من الأفكار لدي (ولدى غيري أيضاً كما أتصوّر). فقد كان حدث العشرين من مارس 2003 حيث بدأ أزيد من ربع مليون جندي أميركي وبريطاني وأجنبي بشن هجوم عسكري على العراق مهولاً. لقد ظَهَرَ لي، أن مَنْ هم في السلطة، لا يزيدون عن جوقة من السياسيين، استعانت بالأجنبي، كي يَنْفذ إلى بلاد الرافدين. وكان هذا الشعور، مسنوداً بقناعتي أن الاحتلال الأجنبي أمرٌ لا نقاش فيه.

ما تبيَّن لي لاحقاً، أن النظرة لمفهوم الاحتلال عند كثير من السياسيين والمثقفين ورجال الدين ليست كما أعتقد. دون أن يدفعني ذلك للتخلي عن مبادئي في النظرة إليه. لقد بدا لي أن النظرة إلى الاستعانة بالأميركي لدخول العراق، لم تعد هي ذات النظرة التي نُظِرَ بها إلى دخول قوات حلف الناتو إلى ليبيا في مارس 2011. ولا برقص بعض ساسة المعارضة السورية بحتمية دخول الجيش الأميركي إلى سورية تحت ذريعة ضرب الأسد!

بل إن الحالتين (الليبية والسورية)، استوجبتا استجداءً من رجالِ دينٍ كبار، يحثُّون فيه الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا كي تتدخل عسكرياً في بلديْن مسلميْن! لنا أن نتخيّل ذلك جيداً كي نرى الصورة الحقيقية للمسألة.

ليس هذا فحسب، فقد جرَّتني الذاكرة إلى ما هو أبعد من ذلك. فقد استحضرت أنه وفي مرحلةٍ ما من مراحل القرن الثامن عشر والتاسع عشر، أظهر تجمع القيصرين في أوتيل لامبير الفرنسية، رغبة جامحة في التحالف مع روسيا والاستعانة بها بالرغم من أنهم فرنسيون. واستحضرت كيف أن غرب ألمانيا كان موالياً لفرنسا خلال تلك الحقب أيضاً.

وفي التاريخ القريب، استحضرت حادثة استعانة الفرنسيين الديغوليين بالإنجليز والأميركيين ضد حكومة فيشي المدعومة من الماريشال فيليب بيتان خلال الحرب العالمية الثانية، بعد أن دخلت القوات النازية باريس في العام 1940. ولم يمنع من قيام ذلك الحساسية المفرطة بين لندن وباريس نتيجة عِداء حرب المئة عام، وحرب الأعوام السبعة.

وفي الحرب الكورية، خلال خمسينيات القرن الماضي استعان الزعيم الكوري الجنوبي إي سنغ مان وما تلاه بالجيوش الأميركية ضد أبناء عمومته من الكوريين الشماليين، فقُتِلَ وفُقِدَ أربعة ملايين كوري، وهُجِّر خمسة ملايين آخرين خلال النزاع، ثم يُبارك سنغ فرض الحصار الخانق على الشمال، وعزله دولياً، وفتح جبهة استنزاف معه، وبمساندة أميركية!.

أضيف على ذلك، تساءل آخر: كيف صوَّت 99.8 بالمئة من الفوكلانديين في مارس 2013 لصالح بقائهم «ضمن السيادة البريطانية» خلال استفتاء عام، رافضين العودة إلى الوطن الأم الأرجنتين، التي لا تبعد عنهم سوى بـ 480 كم، بينما يبتعدون هم عن بريطانيا بـ 1400 كم! كيف يُعرَّف الولاء والشعور بالهوية والوطنية في هذه الحالة؟

هذه الحوادث لا أسوقها لتبرير الفعل الخاطئ، بل لكي نكتشف حجم البعد والخصام ما بين السياسة والأخلاق، وما بين الخارطة والميدان، وما بين الفعل والقول، وما بين النظرية والتطبيق. وهي لن تُغيّر من حقيقة النظرة إلى الأشياء إن تمَّ أخذها دون شوائب سياسية.

هذه الأحداث تجعلني أتساءل عن موقع الأخلاق ومعيارها في ثقافة الشعوب، وفي الفلسفة السياسية عموماً. كيف تصيغ الأحداث مثل هذا الشعور الجمعي، الذي يدفع باتجاه تشكُّل هويات مختلفة، لا تمت إلى الوطنية والانتماء بصلة. بطبيعة الحال، نحن لسنا في وارد التقييم وأخذ الموقف، لكننا نتساءل ونتعجب ونستفهم بشدة!

وربما يجعلنا التفكير في هذا الأمر، لأن نعرف الكيفية التي تتشكَّل منها تلك المواقف وهي: السياسة، العدالة، الاقتصاد، الاجتماع. فإدارة الدول وحكم الشعوب، تلعب دوراً كبيراً في تكوين وتشجيع الانتماء العام المتماسك. أما خلاف ذلك، فهو يدفع باتجاه تمييع الانتماء، وجعله عرضة للتآكل، أو للانجرار نحو أطراف الهوية.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 4242 - الجمعة 18 أبريل 2014م الموافق 18 جمادى الآخرة 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 9 | 7:10 ص

      استعمار واستحمار

      مَنْ هم في السلطة، لا يزيدون عن جوقة من السياسيين، استعانت بالأجنبي، كي يَنْفذ إلى بلاد الرافدين. وكان هذا الشعور، مسنوداً بقناعتي أن الاحتلال الأجنبي أمرٌ لا نقاش فيه.

    • زائر 7 | 9:12 ص

      متابع . . . تعليقات رائعة لفيصل القاسم ( 3 )

      متى نتعلم من الأمم الحية التي وضعت الوطن عند حدوده ولم تعامله كإله يجب تقديسه حتى لو أهانك وأذلك صبح مساء؟ هناك مثل انجليزي شهير يقول: "إن الوطن حيث القلب". فإذا كنت تعيش وتحب بلداً ما حتى لو لم تولد به فهو وطنك الحقيقي وليس مسقط رأسك الذي أخذ على عاتقه تجريدك من آدميتك منذ اللحظة التعيسة الأولى التي خرجت بها الى الحياة. ما الفائدة أن تعيش في وطنك غريباً؟ أليست الغربة الداخلية أصعب وأقسى عشرات المرات من الغربة الخارجية؟ . . . . . مقال لفيصل القاسم بعنوان : بلادي و إن جارت علينا لئيمة !

    • زائر 6 | 9:08 ص

      متابع . . . . تعليقات رائعة لفيصل القاسم

      إلى متى نتشدق ببيت الشعر السخيف: بلادي وإن جارت علي عزيزةٌ وأهلي وإن جنوا علي كرامُ»؟ أليس مثل هذا الكلام الفارغ هو الذي ساهم في وجود الدولة التسلطية، ومنع تحقيق المواطنة بمفهومها الحديث في العالم العربي، وأعاق تقنين حقوق المواطن وتحديد واجبات الوطن وحكامه؟ إلى متى نردد العبارة المهترئة: ما أجمل أن يموت الإنسان من أجل وطنه»؟ لماذا لا نقول: ما أجمل أن يحيا الإنسان من أجل وطنه»؟ لماذا ترتكز ثقافتنا العربية المازوخية على الموت والعذاب لا الحياة والمتعة في جنبات الوطن؟

    • زائر 5 | 9:07 ص

      متابع . . . تعليقات رائعة لفيصل القاسم ( 1 )

      فالوطن في ثقافتنا العربية المريضة يتقدم على المواطن، والأرض العربية القاحلة الجرداء أهم من الإنسانية، ومسقط الرأس غال حتى لو أطار رؤوسنا وقدمنا طعاماً مفروماً للكلاب والقطط.......... أليس هناك من لديه الشجاعة لأن يقول لهؤلاء الغوغائيين الذين ينصرون الوطن (( ظالماً أو مظلوماً )): إن "الوطنية هي الملاذ الأخير للسفلة والأنذال" كما صاح الأديب الإنجليزي سامويل جونسون ذات مرة؟

    • زائر 4 | 9:02 ص

      متابع . . . لاحظوا موقف النبي موسى (ع) مع بني اسرائيل

      عندما استبد فرعون ببني اسرائيل ، جاء النبي موسى (ع) و طلب من فرعون أن يسمح له بأن (( يهاجر بهم )) إلى خارج مصر ( موطنهم و بلدهم ) ، ولم يقل لفرعون : سنموت و نبقى هنا لأجل وطننا !! . . . فلا خير في وطن يذبح مواطنيه ، كل الأرض وطننا ولكننا نقيم فيها في المكان الذي يحتضننا

    • زائر 3 | 8:33 ص

      متابع . . . الولاء للوطن ؟؟؟

      يقول أمير المؤمنين : ((( ليس بلد أحق بك من بلد ، خير البلاد ما حملك ))) .... أيموت الإنسان من أجل بلد لا يعترف به و يسحله كالجرذ ، فقط لأنه ولد فيه ؟؟ ما هذه المعادلة السخيفة ؟ لمن قال الله عز وجل إذا (( ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها )) ؟ لم لم يقل لهم ابقوا وموتوا من أجل أوطانكم حتى لو ذوبوكم بحامض الكبريت المركز !!! هل الوطن هو التراب هذا ؟ و هل الوطن هم أبناء هذا التراب ( بالذات ) حتى لو كانوا طغاة وصعاليك ؟ الوطن هو الأهل هو الأحباب هم الأصدقاء و بعد هؤلاء لا يبقى سوى العفن

    • زائر 2 | 3:45 ص

      النتيجة هي :::

      لان الموقف من العراق هو موقف طائفي بحت وصرف ومحض ووووو ولو كان حكام ليبيا شيعة لاصبح التدخل الغربي فيها حرام

    • زائر 1 | 3:14 ص

      الاخلاق والسياسة عند حملة السلاح في العراق


      ألفت هنا لتناقض صارخ عند دعاة الاخلاق والوطنية في مقاربتهم للمسألة العراقية: إن غالبية من اختار حمل السلاح ضد المحتل الامريكي مقابل الغالبية التي اختارت الحل التفاوضي والسياسي غالبيتهم أوغلوا في الدم العراقي أكثر من الأمريكي ومهدوا لدمار أشمل للعراق وزادوا من الفتنة الطائفية وكانت غايات بعضهم طائفية خالصة فإما هم وإما دمار العراق على الجميع. غالبية من حمل السلاح هم في الحقيقة خونة وليسوا وطنيين.

اقرأ ايضاً