العدد 4307 - الأحد 22 يونيو 2014م الموافق 24 شعبان 1435هـ

الألم والحضارة التي لا أثر يدل عليها!

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

في كتابها «The Story Of Pain... from the prayer to painkillers» تتقصّى جوانا بورن الألم ليس باعتباره دخيلاً على منظومة الجسم، وليس باعتباره لا يختلف عن حيوان شرس يباغت أحدنا فينهش الأقرب إليه. تربط كل ذلك بمنظومة بيئية ونفسية ومزاجية وروحية أيضاً بشرط عدم التلاعب بها وتوظيفها من قبل الدِّين، ولم تكن في تناولها الدين دقيقة لأنها لم تفرّق بين الدِّين والذين يتحدَّثون باسمه احتكاراً لقيمته وتجييراً لمنافعهم في المحصلة النهائية.

الألم تعريفاً يظل عصيّاً من حيث دقته على المستوى الإكلينيكي، وعلى المستوى المجازي أيضاً؛ وإن ظل بالنسبة إلى الأخير أكثر سعة وتناولاً. هو قريب من تخيله. في الخيال سعة وتجاوز. في العلم والفحص الدقيق لن يتناسب بتاتاً. العلم مُحدَّدٌ ومُحدِّد.

في الألم الشخصي سعة من جهة أخرى مادام محصوراً ومحددة دائرته. في الألم الذي ينتاب مجموعة الأمر أكثر من مرعب.

تشير جوانا إلى أنه «يظل تخفيف الألم مطلباً مركزياً لجميع المجتمعات».

ذلك لا ينفي بأي حال من الأحوال أن وضع جوانا بورك للألم في حدوده وسياقاته السريرية «يظل حقيقة من الناحية الفسيولوجية». حقيقة لا تفسير لها في مجرى التفاصيل ودقتها.

تحيلنا جوانا في الكتاب نفسه إلى حاسّة يلتقي فيها الألم معنا: الكلام! هل يتكلم الألم؟ تعبير أي منا في حال استحواذه ونهشه الأعضاء هو بمثابة كلام: نص. مثل ذلك الكلام/الصراخ /الأنين؛ وحتى محاولة كتمانه، يعطي بصيصاً وضوءاً للاهتداء للتشخيص.

في الألم المشترك مأزق. وحدهم الذين يتحملون الألم في درجاته القصوى لا يريدون لمن يحبّون أن يصلهم شيء من ذلك الألم ولو تعاطفاً وتفاعلاً مع حال من يحبّون. جوانا لا تترك تلك التفاصيل في كتابها: كبح التعبير عن الألم ومحاولة مواراته ريثما تتاح فرصة من عزلة أو خصوصية للاستفراد بالألم.

«واحد من أكثر الفصول المؤلمة في الكتاب هو دور الدِّين، والذي ربما لا يثير الدهشة، أن له تاريخاً مقيتاً؛ وغير سار، في تجنيد المعتقد التقليدي للألم». ذلك ما كتبته سالي فيكرز في صحيفة «الغارديان» الأحد (15 يونيو/حزيران 2014).

من جانب آخر، في مشهد عابر في أحد الأفلام يتحدث أحد بين مجموعة من المصرفيين الذين كانوا يعملون كقتَلة ومأجورين بغطاء رسمي من دولتهم العظمى في إحدى الدول العربية: أنا لا تخيفني الدماء. يخيفني الحبْر! الحبْر الذي قد لا يتم في توقيع عقود بملايين لاغتيال معارضين! ذلك جانب من حضارة اليوم

فيكرز التي قدمت مراجعة واستعراضاً للكتاب رأت من الفجاجة أن تشكو أن الكتاب المليء بثراء أفكاره لم يقرب الألم النفسي الذي تعاني منه الحضارة؛ والصحيح: المدنية المتوحشة التي نشهدها.

في المراجعة تلك تتبّعاً لتفاصيلها، تراكمت التساؤلات، من دون أن يعني ذلك انتظاراً لإجابات. التساؤلات هي التي تربك اليوم. الإجابات جاهزة وتحت الطلب، مثلها مثل الوجبات الجاهزة: ما الألم؟ كأنه كائن يتغلغل في كائن. المسكنات هنا بمثابة الرصاصة التي تقتل عدوك. لكن ذلك العدو سرعان ما يباغتك ثانية وثالثة ورابعة وخامسة. كأن له أكثر من روح بديلة واحتياط. بها يعيش لينهكك. يموت مع موتك. هنالك تكون استراحته. للألم كلام هو جزء من السياقات السريرية التي منها يبدأ التشخيص والعلاج. اشتراك الآخرين معك في الألم يكشف أيضاً عن ثقافة. مؤشر تلك الثقافة. مؤشر العاطفة فيها. مؤشرك على جعل الأمر سرياً كي لا يشاركك أحد فيه. حين تتألم ستحدث المشاركة ولو على نحو عاطفي؛ أو لنقل «مجازياً»!

في أبسط ما يمكن استيعابه من هذا التسخيف لوعي الكائن البشري أمام هذا القشر من الاقتناع بالحياة التي لا شيء يدل عليها؛ وسط كل هذا الاجتذاب والاختطاف والمصادرة، هو أن الحضارة: ألاّ يتألّم الإنسان بالصورة التي نشهد فرْماً لوجوده، وسحقاً لقيمته، ونفياً لمعناه. نحن إزاء مدنية لا حضارة. مدنية أبسط ما يدل عليها أنها تغري الإنسان بالعودة إلى البيئة الأولى التي جاء منها قبل أن يقعّد ويؤسس للاجتماع البشري!

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 4307 - الأحد 22 يونيو 2014م الموافق 24 شعبان 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً