العدد 4332 - الخميس 17 يوليو 2014م الموافق 19 رمضان 1435هـ

مدرسة الإنسانية الكبرى

قاسم حسين Kassim.Hussain [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

طلب بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل، من بعض العلماء أن يخرج أحاديث صحاحاً وشيئاً مما ورد في فضائل علي (ع) وصفاته، فكانت فرصةً لتكوين صورة وصفية عن الإمام، نقلاً عن الصحابي الجليل جابر بن عبدالله الانصاري (رض) وآخرين.

كان ربعة في الرجال، لا بالطويل ولا بالقصير، للقصر أقرب، أدعج العينين أنجل (واسع العينين مع شدة سوادهما)، أزجّ الحاجبين (مقوسهما)، من أحسن الناس وجهاً، كأن وجهه القمر ليلة البدر، يميل إلى السمرة، كثير التبسم.

ناتئ الجبهة، مع انحسار شعر مقدم رأسه، كأن عنقه إبريق فضة، كثّ اللحية، عريض ما بين المنكبين، لمنكبيه مُشاشٌ (عظام المنكبين) كمشاش السَبُع الضاري، لا يبين عضده من ساعده. شديد الساعد واليد، إن أمسك بذراع رجل لم يستطع أن يتنفس. غليظ العضلات، ضخم عضلة الذراع، إذا مشى تكفّأ (تمايل إلى الأمام)، وإذا مشى إلى الحرب هرول. قوي شجاع». وهكذا كان بطلاً مقداماً في حروب الرسول.

وقال عنه المغيرة، كما ينقل السيد محسن الأمين في «المجالس السنية»: «كان عليٌ عليه السلام على هيئة الأسد، غليظاً منه ما استغلظ، دقيقاً منه ما استدق». وحين ولادته كان أبوه غائباً، فسمّته أمه فاطمة بنت أسد، حيدرة، على اسم أبيها، فلما عاد أبو طالب أسماه علياً، وقال:

سميته بعليٍّ كي يدوم له

عز العلو وفخر العز أدومه

وهكذا كان، إذ ارتبط اسمه إلى الأبد، بالعز والسؤدد والمجد والخلود، وبالقيم والفضيلة والمبادئ والأخلاق، وبالتضحية والفداء وحبّ الفقراء، ليصبح قيثارة الدهر التي يطرب لها الأحرار.

وُلد في جوف الكعبة، في فضيلةٍ لم يشركه فيها أحد، كما تذكر كتب السيرة، وذكرها ابن الصباغ المالكي في «الفصول المهمة»، وصاحب السيرة الحلبية. وكان مولده بعد ثلاثين سنة من عام الفيل، حيث تعرّضت مكة لغزو الحبشة. وحين بُعث محمدٌ (ص) كان عمره عشر سنين.

قبل المبعث بسنوات، عاش عليٌّ مع النبي في بيته، حيث تعرّضت مكة إلى شدة وجدب، وكان والده أبوطالب معسراً، فتوزّع إخوانه بنيه ليخفّفوا عليه، فذهب جعفر مع الحمزة، وطالب مع العباس، وأبقى الأب معه عقيلاً حيث خاطبهم: «اتركوا لي عقيلاً واصنعوا ما شئتم». وكان علي من نصيب محمد الذي كان يحبه حباً شديداً منذ ولادته، حيث طلب من أمه فاطمة أن تدني مهده من فراشه، يحرّكه عند نومه، ويسقيه اللبن ويناغيه في يقظته، ويحمله على صدره. وهكذا بدأت العلاقة في الأرض لتمتد إلى السماء.

عاش عليٌّ لصيقاً بمحمدٍ (ص) بعد البعثة، وكان يحمل لواءه في الحرب، وزوّجه ابنته فاطمة (ع) التي تقدّم لخطبتها صحابة آخرون فكان يعرض عنهم قائلاً: «إني انتظر فيها أمر السماء». وقدّر الله أن يهب الذرية الطيبة لرسوله من خلال هذين القمرين.

في هذا البيت استمر الوحي بالهبوط، والقرآن بالنزول، وفي هذا البيت نزلت سورة «الدهر» حين صاموا ثلاثة أيام، وكانوا يقدّمون طعامهم للمحتاجين ساعة الإفطار، حتى نالهم الإنهاك ودخل عليهم نبي الرحمة وهم يرجفون ضعفاً، ونزلت سورة «الإنسان» لتتلو مآثرهم أبد الدهر: «ويطعمون الطعامَ على حبّه مسكيناً ويتيماً وأسيرا. إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكوراً. إنا نخاف من ربنا يوماً عبوساً قمطريراً. فوقاهم اللهُ شرّ ذلك اليومِ ولقّاهم نضرةً وسروراً. وجزاهم بما صبروا جنةً وحريرا» (الآيات 8-12).

بعد رحيل النبي المؤسّس، بقي علي شاهداً على تقلبات الدولة والمجتمع، ناصحاً وموجّهاً ومشيراً، مؤثِراً التضحية بالشأن الخاص لصالح العام، وكان يقول: «والله لأُسلِمَنّ ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن جورٌ إلا عليّ خاصة». كانت الأولوية عنده تحقيق المصلحة العامة والحفاظ على الوحدة الإسلامية.

حين جاءته الخلافة واجتمعت الجماهير على بابه تلح عليه بتحمل القيادة، قال لهم: «دعوني والتمسوا غيري، فإنا مستقبلون أمراً له وجوهٌ وألوان، لا تقوم له القلوب، ولا تثبت عليه العقول». وفعلاً لم تمر أسابيع حتى تلبدت الأجواء بالغيوم السوداء، وصدق حدسه، فهناك فئات حليت الدنيا في أعينها وراقهم زبرجها، كما قال، ولم يرُق لها أن يعيد أموال المسلمين المتلاعَب بها إلى خزانة الدولة. فانشق بعض من كانوا يراهنون على مساومته، ليتجمعوا في البصرة، ويعلنوا التمرد على الخليفة المنتخب، ويضعوا أيديهم على بيت المال ليتقاسموه، ويقبضوا على واليه هناك عثمان بن حنيف الأنصاري، ويعذّبوه وينتفوا لحيته، وحين قابل لاحقاً الإمام قال له مداعباً: «أرسلتني إلى البصرة شيخاً فعدت إليك أمرد».

خمس سنوات، قضاها الإمام في الحكم، واصطدم بأصحاب المصالح والأهواء، تحقيقاً لما وعده الرسول من أنه سيقاتل قريشاً على تأويل القرآن «كما قاتلتهم على تنزيله»، في ثلاث جولات عسكرية حاسمة، مع الناكثين في البصرة، والقاسطين في الشام، والمارقين في العراق. ورغم كل تلك المحنة قدّم (ع) مدرسةً رفيعةً في الحكم والعدل والمساواة، مازالت تتطلع الإنسانية إلى آفاقها وسط كل هذا الضياع.

إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"

العدد 4332 - الخميس 17 يوليو 2014م الموافق 19 رمضان 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 21 | 9:28 ص

      أحسنت

      مأجورين بمصاب أمير المؤمنين ويعسوب الدين

    • زائر 20 | 8:20 ص

      أفضل مقال

      أحسنت كتابة وشرحا. أفضل مقال قرأته هذا العام!

    • زائر 19 | 8:10 ص

      السلام

      السلا م عليك يا امير المؤمنين لافتى الى على لاسيف الى ذولفقار وانتصر الاسلام بسيف على عليه السلام نريد للمسلمين حاكم مثل علي عليه السلام

    • زائر 18 | 7:53 ص

      سلمت يمينك

      مقال رائع اختصر حياة الامام علي في بضع سطور ربطت مع بعضها بطريقة فذة زادها جمالا من كتبت في حقه

    • زائر 16 | 5:54 ص

      السلام عليك يا سيدي ومولاي

      السلام عليك يا سيدي ومولاي يا أمير المؤمنين يا أبا الحسن. . والله لو كنت موجود الآن بيننا لأصبح حال المسلمين أفضل وعشنا بكرامة وعزة. . لم يكن في عهدك شخص جائعا أو ذليلا. . مأجورين بمصاب أفضل أعدل شخصية على وجه الأرض بعد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم

    • زائر 15 | 3:51 ص

      السلام عليك يا ابا الحسنين

      السلام عليك يا ابا الحسنين السلام عليك يا اخ الرسول السلام عليك يا زوج البتول السلام عليك يوم ولدت ويوم استشهدت ويوم تبعث حيا حشرنا الله معك ابد والله ما ننسي علياه

    • زائر 14 | 3:41 ص

      مقال رائع

      يالله كيف تكتب يا أستاذ قاسم.. التاريخ بالجغرافيا بالدين بالسياسة بالأدب...الخ أدام الله عليك نعمة التوفيق وجعلك من الموالين المخلصين لأهل بيت النبوة عليهم السلام..

    • زائر 13 | 3:11 ص

      لا عجب

      لقد قال له رسول الله انت منى بمنزلة هارون من موسى الا أنه لا نبي بعدى

    • زائر 12 | 2:28 ص

      ياعلي ياعلي ياعلي ضاع ميزان العدالة

      من بعدك عيناك ياعلي جارة الدنيا عليا ظلما. عذبونا وسجنونا من أجل حبك ياعلي. ويوم اقسمنا لن نترك حبك وحب آل البيت زادو في عذابنا . نشتاق لك بكل حركة وسكون ننادي ياعلي ياعلي ياعلي.

    • زائر 11 | 2:12 ص

      علي امام المتقين

      السلام عليه يو م ولد ويوم يموت ويوم يبعث حياً

    • زائر 10 | 2:09 ص

      بارك الله فيك سيدنا

      وعظم الله اجوركم كم احب ان اقرا لك خصوصا عندما تكتب عن الشخصيات التاريخيه لقد اجدت الكتابه عن شخصيه عظيمه كشخصية الامام حشرنا الله واياهم

    • زائر 9 | 12:56 ص

      السلام عليك يا أمير المؤمنين

      رسالة الامام الى مالك الأشتر خير دليل على انك الأعدل و الأكمل لعن الله قاتليك

    • زائر 8 | 12:35 ص

      بيض الله وجهك

      السسلام على وصى رسول الله

    • زائر 6 | 11:16 م

      لماذاعلي

      ( قال السيوطي في الدر المنثور : 6 / 379 ، في تفسير قوله تعالى : ( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية ) ( البينة : 7 ) قال : ( وأخرج ابن عساكر عن جابر بن عبد الله قال : كنا عند النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فأقبل علي فقال النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : والذي نفسي بيده إن هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة ، ونزلت : ( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية ) فكان أصحاب النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إذا أقبل علي قالوا : جاء خير البريه .

    • زائر 5 | 10:34 م

      السلام على امير المؤمنين

      علي بن ابي طالب
      مأجورين

    • زائر 4 | 10:21 م

      رواية تختصر ظلامة أمير المؤمنين عليه السلام .. عالم بين جهال

      خطب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ‏‏(عليه السلام)، فقال في خطبته: (سلوني قبل أن تفقدوني، فوالله لا تسألوني ‏عن فئة تضل مائة وتهدي مائة إلا نبأتكم بناعقها وسائقها إلى يوم القيامة).‏
      فقام إليه سعد، فقال: أخبرني كم في رأسي ولحيتي من طاقة شعر.‏
      فقام أمير المؤمنين (ع) وقال: (والله، لقد حدثني خليلي ‏رسول الله (ص) بما سألت عنه، وإن على كل طاقة شعر في ‏رأسك ملكاً يلعنك، وعلى كل طاقة شعر في لحيتك شيطاناً يستفزك، وإن ‏في بيتك لسخلاً يقتل ابن رسول الله، وآية ذلك مصداق ما خبرتك به.‏

    • زائر 3 | 10:12 م

      من روائع الأديب جبران خليل جبران في إمام المتقين علي بن أبي طالب ( ع)


      "... إنّ علياً مات شهيداً؛ شهيد عظمته الإنسانية.. ورقيه الروحاني.. وعقيدته الإسلامية الصافية..
      ".. في عقيدتي أن عليا جوهرة بين الحصى، تفرد بمعان جعلت منه الإنسان الكامل..."
      " حقا إن قريشاً أولت علياً حقداً أزرق لأنه قتل أعيان أبطالها في بدر، وأحد، والخندق .

    • زائر 2 | 10:03 م

      نعم

      انه امير المؤمنين ع ولد في اعظم مسجد في الكون وختمت حياته في مسجد و هو يصلي لم يستطيعو قتله الاوهو ساجد لله لانه لاينشغل بأمر أخر وهو يصرخ متبسما فزت ورب الكعبه ياعلي ياعلي انت النور السابح في عرش الرحمان وسفينتة نوح انت عليها الربان. فجزاك الله خير جزاء بماقدمته من علم للعالم اجمع ونصرت به الاسلام وأعززته

    • زائر 1 | 9:46 م

      سلام الله عليك با امير المؤمنين

      عظم الله اجوركم يا شيعة امير المؤمنين بهذا المصاب الجلل

اقرأ ايضاً