العدد 4347 - الجمعة 01 أغسطس 2014م الموافق 05 شوال 1435هـ

عبثية القرن الواحد والعشرين

ياسر حارب comments [at] alwasatnews.com

بعد الحرب العالمية الثانية ظهرت جُمْلة من التيارات الفكرية والفلسفية التي نَبَت بعضها في القرن التاسع عشر، إلا أن إرهاصات مرحلة ما بعد الحرب، والدمار الذي خلفته على الأرض وفي نفوس الناس أدخلهم في حربٍ أخرى ولكن داخلية، بين الإنسان وبين نفسه. فظهرت «الوجودية» –تأخذ غالباً طابعاً إلحادياً– ودَعَت الإنسان إلى التفكير بحرية مطلقة ودون قيود، ووضعته أساس هذا الكون، ولذا، فعليه أن يحتفي بهذا الوجود، وعليه تقع مسئولية خلق جوهرٍ ومعنى لحياته واختيار معتقداته مستقلاً عن أي شريعة أو نظام سابق. ونجد هذه المعاني في كتابات الفرنسي جان بول سارتر الذي رفض قبول جائزة نوبل.

وظهرت «العدمية» التي تقول بأن وجود الإنسان عديم القيمة وخالٍ من مضمون حقيقي، وأن للإنسان إمكانات محدودة وعليه، حتى يثبت وجوده، أن يعيش في حدود هذه الإمكانات. وتتسم بالتشاؤم واليأس، ولذلك يُقال بأن أبي العلاء المعري هو أشهر العدميين العرب.

ثم انبثق الفكر الجديد لمفهوم «العبثية» من فكرة الوجودية – وتأثر بالعدمية - على يد الفرنسي ألبير كامو، ويدور مفهوم العبثية حول البحث غير المجدي للإنسان عن معنى للحياة، خصوصاً وأنها لا تؤمن بوجود إله. فكتب «أسطورة سيزيف»، وسيزيف هو أحد الشخصيات في الأساطير الإغريقية (الميثولوجيا الإغريقية) تُعاقبه الآلهة بأن يحمل صخرةً من أسفل جبل، وعندما يصل إلى قمته تتدحرج عائدةً إلى الوادي، فيعود إلى رفعها مرةً أخرى، وهكذا دواليك، لا ينفك يفعل ذلك أبداً، في صورة تجسد العذاب الأبدي.

لقد ظهرت العبثية نتاجا لانعدام قِيمة الحياة، ولعدم فهم سبب الوجود، فالموت والفناء كانا القيمتين المسيطرتين على الفكر الإنساني بعد الحرب. ولكن، أظن أننا نعيش اليوم عبثية جديدة سببها أمران متضادان: الأول، أننا نعيش حرباً عالمية «افتراضية» طوال اليوم من خلال معرفتنا لكل أخبار القتل والدمار والتفجير والوحشية، فيُسكب علينا قَدْرٌ هائل من العدمية وشعور بالفناء أقوى من رغبتنا بالحياة.

ثم نرجع، وهذا هو السبب الثاني، إلى التعلق بالحياة بشغف وكأننا في صراع مع فكرة الفناء، فنعانق الملذات ونشبع الرغبات من خلال سيطرة الآلة (التكنولوجيا) على كل نواحي الحياة، والتسلية والبذخ والترف العام الذي لم تشهد له البشرية شبيهاً في تاريخها. فالإنسان خلال رحلة التاريخ الطويلة، رغم كل الملذات التي أغرق نفسه بها، إلا أنه لم يصل إلى مستوى من المتعة استطاع فيه أن يُبرّد درجة حرارة المكان الذي يسكن فيه (المكيف)، ولم يتمكن أبداً من السفر عبر القارات خلال ساعات (الطائرة)، ولم يُحيل الليل نهاراً في الطرقات والمدن (الكهرباء).

وقد يقول قائل: ولكن الأديان كفيلة بأن تنقذ الإنسان من هذا التشرذم الروحي والوجداني؟ وأقول نعم، ولكن من يتبع الأديان بصدق وتجرد اليوم؟ وربما علينا أن نضبط الإجابة: من يؤمن بها حقاً؟ ففي الغرب المسيحي لا تكاد تشعر بالمسيحية أو بوجود تصور واضح لفكرة الإيمان. وفي الشرق المسلم يتسربل كثير من الناس بلباس الدين ليَأمَنوا سخط المجتمع، أما حركة الإلحاد فهي آخذة في التمدد في قلب العالم الإسلامي (الشرق الأوسط) بسبب تناقضات كثير من رجال الدين وانفصامهم عن الواقع، وبسبب ما تمارسه جماعات العنف التي تصف نفسها بأنها تتبع الرعيل الإسلامي الأول، فلبست السواد، وبايعت خليفة، ثم شرعت تقطع الأيادي وتَحِزُّ الرؤوس وترجم النساء بحجة تطبيق الحدودالإسلامية! ولذلك فإن العالم يعيش اليوم عبثية، ليس فقط أخلاقية وقيمية، بل إيمانية وإنسانية.

لقد تماهت المفاهيم المتناقضة، وتقاربت الأضداد حتى رأينا مثقفين يصفقون للقاتل وهو يقصف مدارس الأطفال، ويدك المنازل على الأبرياء، بحجة الدفاع عن النفس. وصارت العدمية مذهباً إنسانياً بمواصفات جديدة أبرزها، إلى جانب اللااكتراث المطلق، تبلد المشاعر، وتجمد القيم،وتكسر مرايا الضمير.

لقد أصبحنا نعيش حقاً في عالم بلا معنى، منزوع القيم، قليل الرضى، تنتهي صلاحية الحياة فيه أسرع من حليب البقالة، وهذا ما يجعل الناس منافقين قلقين، إنه «الطلاق بين الإنسان وحياته، الممثل ومشهده. هو بالضبط الشعور باللاجدوى» كما يقول ألبير كامو في «أسطورة سيزيف».

نحن نغتال العالم عندما ننفي الإنسان من داخلنا، عندما نقتل باسم الله، ونسرق باسم الله، ونكذب باسم الله، ونكفر باسم الله أيضاً. نصل حينها إلى حالة من العبثية المطلقة التي تجعل الأرواح في فوضى، والعقول في يأس، فيتحقق الفناء الشامل لفكرة الحياة، ولا ندرك ذلك حقاً إلا عندما تحين ساعة أحدنا. حينها يتذكر حياته: كم ضحكة نسي؟ كم دمعة حبس؟ كم لقمة وضع في فم مسكين؟ كم كذبة أطلق؟ وكم سكيناً غرس في ضميره؟ لاشيء جميل حينها، لأنه لم يفعل شيئاً في حياته، كانت عبثاً وصارت عدماً، وهاهي تفنى أبداً.

إن العبث الحقيقي أن يعيش الإنسان ويموت غير معروف بالنسبة إلى نفسه، فتصير مشاعره كبلاط منزله؛ قاسٍ ليحتمل وطأ الأقدام عليه كل يوم، وتلك هي حالة الفناء التي يعيشها إنسان القرن الواحد والعشرين. إنها عدمية المبادئ، وفناء القِيَم الكُبرى.

يقول كامو في الكتاب نفسه: «المشاعر العميقة كالأعمال العظيمة، تعني دائماً أكثر مما نقوله عنها».

إقرأ أيضا لـ "ياسر حارب"

العدد 4347 - الجمعة 01 أغسطس 2014م الموافق 05 شوال 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 2 | 1:15 م

      لا تحرمنا من طلتك

      رغم إني ما أتفق مع بعض إطروحاتك إلا إني عموماً معجب ببرنامجك وبمقالاتك

    • زائر 1 | 12:53 ص

      رائع

      رائع المقال

اقرأ ايضاً