العدد 4363 - الأحد 17 أغسطس 2014م الموافق 21 شوال 1435هـ

المظلومون دائماً

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

قبل سنتين وخمسة أشهر، كتبتُ مقاليْن متوالييْن. الأول تحت عنوان: «كيف تتحوَّل دولٌ إلى الديمقراطية وأخرى إلى الديكتاتورية؟»، والثاني عن «تجربة الهند الاستقلالية في اللاعنف»، وكِلا المقالين ارتَكَزَا على قراءتي لكتاب: «الأصول الاجتماعية للديكتاتورية والديمقراطية»، لمؤلفه بارينجتون مور، وهو كبير باحثي مركز الأبحاث الروسية في هارفارد.

وهذا الكتاب لمور، يعتبر واحداً من أثمن الكتب التي صدرت في السنوات الست الماضية على الإطلاق عن المنظمة العربية للترجمة. ولكل مَنْ أراد قراءة أوضاع الربيع/ الخريف العربي ومشاكل الثورات وانتكاساتها، والجذور المؤسِّسَة للعبودية والديكتاتورية والديمقراطية فعليه قراءة ما كتبه مور. اليوم أستحضر المقاليْن والكتاب لأمر جدير بأن يُكتَب عنه.

بداية الأمر أنه وقبل ثلاثة أيام وصلتني رسالة «عَتَبٍ ناعم» من الأستاذ القدير أحمد محمود. ورغم أن الرجل أعرَف من أن يُعرَّف لكن المقتضى يتطلب أن أذكره كمترجمٍ بارع ذي مدارك علمية واسعة، وحس لغوي متميز. وهو بالمناسبة رئيس لقسم الترجمة بصحيفة «الشروق» المصرية، وعضو في اتحاد الكُتَّاب ونقابة الصحافيين في القاهرة، وقبلها رئيساً لقسم الترجمة في مجلة «كل الناس».

قال لي في رسالته المفعمَة أدباً واحتراماً: «وقَعْتُ بالصدفة على مقالٍ لكَ في موقع - صحيفة - «الوسط» بتاريخ قديم عن الكِتاب، تحدثتَ فيه عن أهميته وذكَرتَ الناشرَ والداعمَ والمؤلف. لكن ما أحزَنني أنكَ أغفلتَ مَنْ قدَّم النصَ الذي قرأتَه باللغة العربية، وهو المترجم، المظلوم دائماً... مع تحياتي: أحمد محمود». انتهى.

هنا، يجب أن أعترف أن من حق الأستاذ أحمد محمود الذي قام بترجمة «كتاب الأصول الاجتماعية للديكتاتورية والديمقراطية» لبارينجتون مور أن يعتِبَ. وربما يزيد من ذلك الاعتراف وأحقيته هو أن كل مَنْ قرأ الكتاب ورأى ما فيه من مادة علمية وتاريخية وتحليلية دسمة، فإنه وقبل أن يُكْبِر المؤلف، سيُقدِّر الجهد الكبير، الذي بذله المترجم في فهم النص الأجنبي على حقيقته، ثم نقله إلى العربية بذات قوته وثرائه.

فالمترجم، كأنه يقرأ فكرة النص من جديد ويعيها وعياً تاماً بشكل أسبق من تحققها العملي كما كان يقول هيغل عن الحرية، ثم يُقسّمها ذهنياً فيعيد رسمها وتدوينها بلغة أخرى بذات السَّبك والمرامي والأفكار والنتائج، متوخياً في ذلك الأمانة العلمية، ومحاولة ضبط تشعب النص الأصلي وفق مقاييس لغة أخرى. هذا الأمر لا يقل عن التأليف ذاته.

كما أن هناك جانباً نفسياً في الموضوع، وهو المتعلق بمسألة علاقة النص بقناعات المترجم الفكرية والدينية والسياسية وميوله النفسية الخاصة. وهنا تمتزج كل هذه العناصر في صراعه مع النص، ما بين امتلاكه ذات المقدرة للمؤلف في الصياغة باللغة الأصلية والمحوَّلة، ثم قضاياه الخاصة، والتي تحتاج إلى مسارات صارمة وسط ذلك الجموح.

كان الكاتب والمترجم الفرنسي أنطوان برمان صاحب كتاب «الترجمة والحرف أو مقام البُعد»، يعتقد بأن المترجم «يهدف إلى إعادة إنتاج النظام الأسلوبي لعمل ما، وهو مُطالَب – مثل المحاكي – باكتشاف هذا النظام». كما أن المترجم في كل ذلك، عليه أن يُراعي الفروق الكبيرة بين اللغات وبالتحديد بين جذورها، كما هو مع الانجليزية ذات المليون ونصف المليون مفردة وبين اللغة العربية ذات الثلاثة عشر مليون مفردة.

أتذكر أنه وعند إحدى مراحل دراستي الجامعية، وقفتُ على ذلك بشكل جَلِي، فقد كانت إحدى المقررات الدراسية متعلقة بمسائل الترجمة. وكان من حظِّي الوافر، أن أكون تلميذاً عند أستاذٍ بارعٍ ليس في اللغة الانجليزية فحسب، بل في العربية وعلومها أيضاً، وعَلَماً في الأخلاق وهو الدكتور رياض جزَّار، (الأستاذ بجامعة البحرين) الأمر جعله الأقدر على منح طلابه الإفادة المجزية بتفرّد. فالعاديَّة تعطي للعالم حجمه، أما التفرد فيعطيه قيمته» كما كان يقول الشاعر الأيرلندي أوسكار وايلد.

وخلال تلك الفترة من الدراسة، شاهدتُ حجم الجهد الذي يبذله الدكتور جزَّار في ترجمة النصوص بأنواعها وفي مقولات الحكمة ذات اللغة العربية/ الإنجليزية المُحكَمَة، ليعيد كتابتها باللغتين، مستعيناً بِمَلَكَاته التعبيرية، وبمخزونه من المفردات. وبالتالي يمكن للمرء أن يقتنع بأن الترجمة هي بالأساس نتاج خاص جداً قد لا يقوم به آخر بذات المستوى ولا بذات الدلالة، لأنه بالأساس خاضعٌ للذوق الشخصي، وخاضعٌ لطبيعة لغة النص الأصلي والآخر المترجَم.

كانت ماريان لودورير وهي أستاذة ومديرة سابقة للمدرسة العليا للتراجمة والمترجمين بفرنسا قد نقلت عن جون ليونز قوله «أن تحليل المدلولات إلى سمات مميَّزة في مفردات لغة ما، كان موضوع تأملات عديدة في اللسانيات والمنطق والفلسفة، وكانت نقطة الانطلاق الفكرة القائلة بأن تحليل مفردات كل لغة من شأنه أن يُعطي عدداً كاملاً من الوحدات المعنوية الصغرى التي لا تنتمي إلى أي لغة على وجه الخصوص، بل تكون حاضرة في مجملها». وكان ذلك تعبيراً دقيقاً لليونز.

كما أن توالد اللغات وبيئاتها والمفردات الناتجة عن تطورها، تحتاج إلى متابعة دائمة من المترجم، وإلى مستوى كبير من التأويل المنضبط بصرامة. هذه الأمور تجعل من عالم الترجمة ومن المترجمين أناساً على مستوى كبير من الأهمية.

وإذا ما علِمنا أن جزءًا كبيراً من الحضارات كانت تُبنَى من خلال قيام المترجمين بإعادة تراث الحضارات الأخرى، كما فعل المسلمون مع اليونان، وكما فعلت أوروبا مع الحضارة الإسلامية بُعَيد انحطاطها، فإن ذلك يعطينا قناعةً أن هؤلاء شركاء حقيقيون في بناء الحضارات وعلومها وتطورها وارتقاء أجيالها، وأنهم صلة بين الأمم.

شكراً لأهل الترجمة وتحيةً لهم وإكباراً لجهودهم في إحياء النصوص وجعلنا نقرأ عبرهم ما خطته الحضارات الأخرى.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 4363 - الأحد 17 أغسطس 2014م الموافق 21 شوال 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 3 | 5:25 ص

      كما العمل من وراء الستار

      حقا يا استاذي ..حقهم انهم مظلومون

    • زائر 2 | 4:37 ص

      معلومة جديدة

      عدد الكتب المترجمة من عهد المأمون إلى عهدنا هذا هو حوالي 10000 كتاب

    • زائر 1 | 1:14 ص

      نعم

      ليس من اليسير أن تتم ترجمة الأعمال، فبعض التراجم قد يحتاج لعشرين سنة، كما هو الحال مع الإلياذة والمترجم سليمان البستاني والذي اضطر لتعلم اللغة اللاتينية ليقوم بترجمتها من أصلها.
      كثير من الأعمال العالمية ما كان لها أن تنتشر وبقوة إلا نتيجة للترجمة الرائعة، وقد يتميز عمل أكثر من غيره نتيجة الترجمة، أو حتى يظلم عمل ما نتيجة ترجمة سيئة.
      الصعوبة هي في التلقي الصحيح والإيصال الدقيق، قد يتم التلقي من اللغة بشكل جيد، ولكن ايصاله باللغة الأم قد لا يكون محترفا وهذه هي الميزة.

اقرأ ايضاً