العدد 4370 - الأحد 24 أغسطس 2014م الموافق 28 شوال 1435هـ

بين ظلم «عليان» وعدل «القاسم»

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

قبل سبعة أيام رَحَلَ «شاعر فلسطين» الكبير سميح القاسم عن عمر ناهز الـ 27495 يوماً. وقد حسبت عمره بالأيام لأنني مقتنعٌ أن رجلاً مثله لا يجب أن يُختَصَر عمره بالسنين، فيومياته كلها تحكي إنسانيته ونضاله، وتَزِن عطاءه الشعري المقاوم.

في لحظة رحيل سميح لا يقف المرء نائحاً باكياً على فراقه، بل هي لحظة مناسبة كي نتلمَّظ فيها الأشياء وأضدادها. فإذا كان الظلام قد عرَّفنا على النور، والصِّدق على الكذب، فإن سميح القاسم قد عرَّفنا الفرق بين الإنسانية واللاإنسانية، وهو يُقرَن نَسَبَاً وروحاً بطائفة الموحدين الدروز في فلسطين المحتلة، التي حاولت «إسرائيل» دائماً جر أبنائها نحو الصِّدَام مع عروبتهم، عبر الانتساب إلى جيشها رغم رفض عشرات الآلاف منهم ذلك إلاَّ مَنْ شدَّ منهم كغسَّان عليان الذي يقود اليوم وبلا شرف، لواء غولاني في الجيش الإسرائيلي، والذي اقترنَ اسمه بأهوال الدم في غزة منذ العشرين من يوليو/ تموز الماضي.

رَحَلَ سميح القاسم ناصر المظلومين، وبَقِيَ غسان عليان مُعاضِد الظالمين. كلاهما عربيان دُرزيان، لكن الأول كان شاعر المقاومة الفلسطينية بِمِداده وحنجرته، والثاني كان عدواً لها بتمثله في أعنف صورة لوجه «إسرائيل» الحربي. دُرزيَّة سميح القاسم هي انتماءُ شرفٍ لطائفة الموحدين الدُّروز تجلِّل تاريخهم منذ القرن العاشر الميلادي وحتى اليوم، أما الدُرزيَّة التي يدعيها غسَّان عليان فهي منه براء وهو يكرع في دماء الفلسطينيين.

في الوقت الذي كان يَصْدحُ فيه القاسم:

لن يموتَ القسَّامُ والظلمُ حيٌ

كلُّ طفلٍ مِنْ شعبنا قَسَّامُ

كان عليان يدكُّ حي الشجاعية في قطاع غزة بالمدفعية، ليقتل أربعة وسبعين فلسطينياً. وعندما يُصاب في ذلك الهجوم البربري، يُصرُّ على رئيس هيئة أركان الجيش الإسرائيلي أن يسمح له بالعودة إلى المعركة، لتصفية ما يُمكن تصفيته من أبرياء!

بين الرجلين، مسافةٌ لا حد لها، وتخوم لا يطالها أحد. إنها مسافة يحكمها النظام الأخلاقي والمثل الإنسانية. هو الحد الذي جعل من الجنرال الإسباني إيتوربيد الذي أرسِل لمحاربة الفلاحين المكسيكيين، أن لا يقبل بهذه المهمة القذرة، فيتحوَّل إلى ناصرٍ لهم ثم رائداً وعرَّاباً لاستقلال المكسيك قبل مئة وثلاثة وتسعين عاماً. إنه الضمير حين يصحو.

لكن ذلك الفارق لا يدل إلاَّ على انحصار الفعل في فاعله حتماً. دروز مقاومون وآخرون مجرمون. وهي قاعدة تصلح في كل الطوائف والمذاهب والأديان، فلا جريرة لأحد من أحد. فمبدأ «ولا تَزِرُ وازرَةٌ وِزْرَ أُخرى» قد وَرَدَ في القرآن الكريم ضمن خمسة مواضع: سورة الأنعام (آية 164) والإسراء (آية 15) وفاطر (آية 18) والزمر (آية 7) والنجم (آية 38).

وعندما نراجع تجارب الأمم والشعوب والجماعات سنرى نماذج لذلك الفرز الحاد، ما بين الجيد والرديء في الأمة والشعب الواحد، بل وفي الجماعة الواحدة، دون أن يمسّ ذلك الفرز بالصورة الجمعية لتلك الأمم والشعوب، فيُشيطِن شكلها وروحها أمام العالم.

في جنوب إفريقيا ظهر نيلسون مانديلا كمدافع شريف عن وطنه وبني جلدته. لكن، ظهر أيضاً منغوسوتو باثيليزي كمناصر لسياسة البِيض العنصرية ضد السود، على الرغم من أنه زنجي من قبائل الزولو. وفي فرنسا، كان هناك جنرالان، الأول هو شارل ديغول الذي ناهَضَ النازية، والثاني فيليب بيتان الذي هادنها وتأمّر في حكومة عميلة لها.

اليوم من الشماليْن السوري والفلسطيني ومن جبل لبنان، فمرتفع السّمّاق بين حلب وأنطاكيا، فوادي التَّيْم إلى جبل حرمون، والجليل وصفد وجبل الكرمل (كما يقسِّم ذلك عبّاس الحلبي أماكن تواجد الدروز) يُباهي الدروز اليوم بسميح القاسم كمُدافعٍ عن وطن مسلوب وعن قيم إنسانية منتَهَكَة، وفي الوقت نفسه لا يتشرفون بذكر عليان وأضرابه ممن داسوا على تلك القيم فأساءوا لأنفسهم. وقد عبَّر عن ذلك شاب درزي بالقول: «أنا فلسطيني وعربي ومن يرتدي الزي العسكري الإسرائيلي هو جندي احتلال».

عمّ عليان الذي رفع قبضة يده في تظاهرة بمدينة حيفا في الداخل الفلسطيني ضد الهجوم الإسرائيلي على غزة قال لوكالة الأنباء الفرنسية: «أنا أتألم لما يجري لشعبي في قطاع غزة. هم أهلي وإخوتي وأنا واحد منهم، أنا فلسطيني عربي أنتمي إلى هذا الشعب المضطهد. أنا أقف مع أبناء شعبي الذين وقع عليهم ظلم ويعيشون تحت القصف في قطاع غزة بسبب التعنت الصهيوني الذي تدعمه أميركا»، مبدياً تبرأه من عمل ابن أخيه غسَّان «ووقوفه هناك هو ضدي وضد مبادئي وهو يمثل نفسه» على حد تعبيره.

اليوم، يستذكر الدم الفلسطيني المسفوح وجميع المظلومين في العالم روح سميح القاسم، وهو يُغادر جسداً لا روحاً. وأختم المقال بقصيدة مُعبِّرة له تحت عنوان: «مقطع من محضر تحقيق» جاءت في ديوانه: «سأخرج من صورتي ذات يوم» يقول فيها:

وكيف تُسمِّي البلاد؟

- بلادي

- إذن تعترف؟

- أجل سيدي أعترف وما أنا بالسائح المحترف

- تقول بلادي؟

- أقول بلادي

- وأين بلادي

- بلادُك

- وأين بلادُك؟

- بلادي

- وقصف الرعود؟

- صهيلُ جوادي

- وعصف الرياح؟

- امتدادي

- وخصبُ السهول؟

- اجتهادي

- وكبرُ الجبال؟

- اعتدادي

- وكيف تُسمّي البلاد؟

- بلادي

- وكيف أسمّي بلادي؟

- بلادي.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 4370 - الأحد 24 أغسطس 2014م الموافق 28 شوال 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 4 | 4:12 ص

      غسا..

      هو الانسان الذي لا يجحد المعروف و لا يعض اليد الممتدة له لانه انسان تجرد عن قيم الاسلام الاموي حيث ان هذا الرجل كان سيكفّر ويهان لو انه كان في بلدان الاعراب ولكنه يعيش في بلد حر يعرف قيمة الانسان ليست بدينه ولنما بما يقدمه لبلده وللانسانية من خدمة فكرمته الدولة واحترمته فكان لابد له من ان يرد المعروف للبلد الذي اكرمه ولم يحط من قيمته ذلك البلد الذي يطبق الدين لله والوطن للجميع . اعترفت داعش بجريمة مسجد مصعب بن عمير فهل يعترف الاعراب بذلك ام سيبقون يكذبون وينهقون ؟
      علي جاسب . البصرة

    • زائر 3 | 3:18 ص

      أم محمد

      إسمح لي سيدي الفاضل أن أجدد إعجابي بفكرك وآرائك وتحررك من القيود.
      "نعم ولا تزر وازة وزر أخرى" فلا داعش والقاعدة وأمثالهم يمثلون السنة. ولا الميليشيات الشيعية التي تصول وتجول في العراق تمثل الشيعة.
      اللهم إجمع قلوبنا على الحق.

    • زائر 2 | 1:50 ص

      مقال رائع ..لا أرتوي من قراءت مقالاتك

      اللهم لا تجعلنا ممن يقتات على آلام الخلق

    • زائر 1 | 11:17 م

      الشرف والوطنية هي مسميات عائرة للطوائف

      الشرف والوطنية هي مسميات عائرة للطوائف كما في حالة سميح القاسم

اقرأ ايضاً