العدد 4380 - الأربعاء 03 سبتمبر 2014م الموافق 09 ذي القعدة 1435هـ

بين مخيَّلتنا ومخيَّلة الطغيان!

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

حين صدرت «مزرعة الحيوان»، للكاتب والروائي البريطاني جورج أورويل، وهي بالمناسبة رواية «الديستوبيا»؛ وتعني المكان السيئ الكئيب الذي يُوجد فيه الفقر والظلم والمرض، بخلاف «اليوتوبيا»، رأى فيها بعض الكتَّاب اليساريين وقتها - وإلى الآن - أنها مسيئة إلى الاتحاد السوفياتي السابق.

الرواية نُشرت في أغسطس/ آب 1945، وهي مليئة بترميز يتم إسقاطه على الأحداث التي سبقت عهد ستالين وخلاله قبل الحرب العالمية الثانية. ولا أحد يجرؤ مهما بلغت به البلْطجة اليسارية، أن يرى في ستالين نسخة مبكّرة لمارتن لوثر كنغ! فيما رأى فيها بعض الكتّاب اليمينيين تشخيصاً أمسك بجزء مما يمكن تخيُّله، وفي التشخيص بعض واقع الحال في ذلك الجزء من العالم. واليمين هو الآخر، لم يكن بتلك الدرجة من البراءة!

الحقيقة أفظع مما تم تخيُّله بمراحل. وحين صدرت روايته «1984»، في العام 1949؛ أي بعد عام من الرواية الأولى، حذَّرت الرواية الثانية من طغيان الدولة، بما اكتنزت به من نقد مُوجع، تحسّس أغلب اليمينيين رؤوسهم، بحثاً عن «بطْحة»، كي لا يكونوا معنيين بالأمر. طبعاً وقتها، وإن اكتنزت بالرمز، إلا أنها كانت تعرّي الأنظمة الشمولية الشيوعية، وبمثابة وصفة مبكّرة لتنبّه العالم إلى الخطر المحدق بالبشرية بممارسات الأنظمة الشمولية التي لا تتحدد في جغرافية مصنفة ضمن معسكر لليمين وآخر لليسار.

الطغيان الذي يُمارس باسم الدِّين اليوم، تجاوز ذلك الذي انطلق من قاعدة الإلحاد أو اللادين؛ أو تحت أي عنوان من العناوين. تجاوز حتى الطغيان في مراحله المبكّرة من التاريخ، يوم أن كان الظلام والجهل والتخلف، سمات كبرى.

اليوم، يمكننا معاينة الطغيان وهو يبتكر صور ومشاهد وعيِّنات الموت والإلغاء في الجغرافية التي من المفترض أن تكون «مقدَّسة»؛ ولكن ذلك لم يمنع من أن تكون بعض تلك الجغرافيات بؤراً للطغيان، ومن يمارسون الطغيان، خلاف «القداسة»!

ما يحدث في الواقع الذي نشهد، يتجاوز بمراحل قدرة المخيلة البشرية على ادّعاء أنها تصوّرته أو التقطته، أو اقتربت منه قبل قرون أو حتى عهد قريب.

كأنَّ الخيال البشري نفسه الذي كان مُمهِّداً لكل كشف علمي واختراع، وبدأ بالافتراض والحلم، لجعل الحياة مغرية على الاستمرار فيها، لم يعد صالحاً في منطلقاته تلك، ولا قِبَل له بمجاراة المخيلة التي يتمتع بها الممارسون للطغيان. ذلك ببساطة، أن مخيلة الطغيان تنسف أحلام ومخيَّلات البشر من حولها. لا تترك لهم وسط ذلك الذهول من الفظاعات أي قدرة على الارتفاع ولو قليلاً عن المباشر والمحسوس من واقعهم؛ كي يكون لديهم الوقت الكافي للذهاب إلى التخيُّل. فيما الطغيان يفاجئهم كل لحظةٍ بما لا يمكن لمخيلةٍ مهما بلغت سعتها وقدرتها على التحليق أن تجاريه وتتوقع ما هو مُقْدِم عليه.

ولسبب بسيط أيضاً، أنه في الوقت الذي لا حدود للمخيَّلة بذهابها في التصوُّر، وربما تكتفي عند ذلك الحد حين لا تملك الأدوات لتحقيق ما يؤدي إليها على أقل تقدير، يملك الطغيان أدواته التي ربما توفر عليه الذهاب إلى التخيُّل. مثل تلك الأدوات تتيح له المباشرة والدخول في التنفيذ والانهماك في التجريب الذي لا يتوخى سوى نتيجة محددة: أن يكون مركزاً للسيطرة والتحكُّم!

أمام مخيلة الطغيان، تصاب ما عداها من مخيَّلات بالصدمة والعجز، وما يشبه الركون إلى الواقع، بكل ما يحمله من موت يومي قابل للتجدُّد.

وبذكْر الجغرافيا، التاريخ هو الآخر برسْم الشطب ومحاولة تجاوز ما حمله من صور للطغيان. كأن الطغيان اليوم في حال سباق ومنافسة كي يتدارك ما لم يتداركه الطغيان الأول، ويأتي بما لم يأتِ به الأوَّلون. كأنها منافسة على من هو الأقدر على تعطيل المخيلة البشرية؛ أو على الأقل، تحييدها، حين تكون أمام ممارسات هي فوق طاقتها وقدرتها.

في التأمُّل القرآني، نقف على حقيقة تساؤل الملائكة، خارج حدود الأرض: «وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يُفسد فيها ويسفك الدماء...» (البقرة، 30). مثل ذلك التساؤل جاء بعد «الجعْلية»، في استدعاء لممارسات نمطية حدثت من قبل إنسان سبق خلق نبي الله آدم، كان يُفسد ويسفك الدماء! والأرض بإطلاقها لن تنجو من ذلك الطغيان صغر أو كبر. تمدّدت الجغرافية أو تقلّصت.

قد نصحو على الطغيان وقد ذهب إلى غير رجعة؛ فقط حين يخلو هذا الكوكب من البشر! وذلك يحتاج إلى ما يتجاوز المخيَّلة البشرية، ومخيَّلة الطغيان في الوقت نفسه! ولذلك ضريبته الفادحة بامتياز!

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 4380 - الأربعاء 03 سبتمبر 2014م الموافق 09 ذي القعدة 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 6:19 ص

      المشتكى

      المشتكى لله والله افرج عن شعب البحرين اللهم فك اسرانا يارب العالمين واهلك كل ظالم ظلم شعب البحرين الطيب

اقرأ ايضاً