العدد 4398 - الأحد 21 سبتمبر 2014م الموافق 27 ذي القعدة 1435هـ

أصبوحة رجل التراث محمد علي الناصري

قاسم حسين Kassim.Hussain [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

كانت أصبوحةً ثقافيةً جميلةً تلك التي احتضنتها «الوسط» صباح السبت (20 سبتمبر 2014)، إحياءً وتنويهاً بهذه الشخصية التي غابت عن دنيانا قبل 15 عاماً، بعد نصف قرن من العمل على جمع التراث الوطني.

الناصري الذي عُرف خطيباً تقليدياً، صعد المنبر في المناسبات الدينية في أكثر مناطق البحرين، واشتهر بجمعه للتراث والأمثال، تُفاجأ بتنوع اهتماماته وغنى شخصيته. فإلى جانب عشرات الكتب والكتيبات المطبوعة، شعراً ونثراً، هناك كتب أخرى مازالت مخطوطةً، التمس المتحدّثون جميعاً من عائلته العمل على طباعتها، لأنها لم تعد ميراثاً عائلياً، وإنّما أصبحت تراثاً وطنياً، من الواجب إتاحته للبحرينيين الاطلاع عليه.

الناصري نموذجٌ للرجل العصامي، فقد عاش صباه يعمل في مهنة العائلة بسوق الصفارين، حتى التاسعة عشرة من عمره، حيث حدثت انعطافة في حياته باتجاه التتلمذ على يد الخطيب الملا عطية الجمري، ليخرج شاعراً يكتب باللغتين الفصحى والعامية، فضلاً عن كتابة المواويل والموشّحات التي أخذت طريقها للأفراح ومناسبات الزواج.

في المحطات المهمة في حياة الرجل، كما أشار جاره وصاحبه وتلميذه الباحث في التاريخ البحريني سالم النويدري، فترة ثماني سنوات قضاها في القصبة بجنوب العراق، فتشربت لغته باللهجة العراقية. كما أن له دواوين شعرية خاصة وأخرى مشتركة مع غيره، فضلاً عن دواوين أخرى جمعها، ولولا جهوده لكانت في غيابة النسيان، مثل ديوان الخطيب «بن رمل»، و«الملا ابن الشيخ». ولمعرفة صعوبة تلك الجهود المضنية، يذكر النويدري كيف كلّفه أستاذه – الناصري- بجمع أحد الدواوين بعدما أنهكه العمل في سن متقدمة، وكانت المادة الأصلية مجرد أكوام من الأوراق المبعثرة وقطع الكارتون المتفرقة، (فالشاعر يكتب ما يخطر له من شعر على أي ورقة كي لا تضيع الخواطر). كان عليه أن يجمعها ويصححها ويدققها ويبوبها... حتى تلتمس المخطوطة طريقها إلى المطبعة.

الشاعر البحريني ورئيس تحرير مجلة «الثقافة الشعبية» علي عبدالله خليفة، ألقى كلمة جميلة عن علاقته الإنسانية بالناصري، وقال إنه «من أهم الشخصيات التي عملت على جمع وتدوين كل ما يتصل بالتراث والثقافة الشعبية». وأضاف: «معرفتي بهذا الرجل الكريم تعود للعام 1970، أثناء جمعي نصوص الموّال وامتدت علاقتي به حتى وفاته».

خليفة الذي عمل في دولة قطر، على تأسيس مركز الدراسات والبحوث، أثناء تولي الروائي السوداني الطيب صالح إدارة الثقافة بوزارة الإعلام القطرية، روى قصة سفر الناصري إلى الدوحة حاملاً معه سبعة صناديق تضم مختلف أنواع القواقع والأصداف المستخرجة من مختلف مناطق البحرين، مرفقة بشروحات مفصلة عنها، فقام بتحويلها إلى جامعة قطر لدراستها كجهة علمية متخصصة، إلا أن عدم تطابق التسميات الشعبية مع تسمياتها العلمية حالت دون تبني المشروع.

خليفة يتحدث عن الناصري بلغة حميمية، فقد كان يزوره كثيراً، وكانت جلساته معه تمتد لساعات، يقول عنه: «كان الرجل متدفقاً وكانت ذاكرته غير عادية». واستضافه في الدوحة مراراً، وعرض عليه إحضار كلّ ما لديه لطباعته هناك، كما دعا «الوسط» إلى تنظيم منتدى أوسع بالتعاون مع مجلة «الثقافة الشعبية»، لإيفاء هذا الرجل حقه، «فهو شخصية بادرت بجمع التراث في وقت لم يكن أحد يفكر بذلك، ولكنه كان حريصاً على أن يفعل كل شيء».

مدير المكتبة الوطنية بمركز عيسى الثقافي منصور سرحان، في كلمته قال: «كان الناصري من المتردّدين على مكتبة المنامة العامة، حينما كنت مسئولاً عنها، وكان يبقى فترة طويلة جداً». وكان يحمل إليه تحت إبطه نسخةً كلما صدر له كتاب جديد، ولفت نظره تأليفه كتاباً للأطفال، استهوته لغته السلسة، فطلب منه 200 نسخة لتوزيعها على المكتبات المدرسية. ويضيف: «إنه شخصية تمثل موسوعة متحركة في الأدب والتراث والتاريخ».

إلى جانب جمعه الأمثال والتراث، عمل الناصري على مشروع كتاب عن مناطق وقرى البحرين، وقد استثمر عمله كخطيب، لجمع مواده، فكان يجلس ليدون المعلومات من ألسنة الناس وكبار السن عن منطقتهم وأحداثها. بل كان يعمدُ إلى زيارة الخطباء والشعراء المكفوفين ليدوّّن ما تختزنه صدورهم من أشعار. إنها همةٌ عاليةٌ وعملٌ دؤوب.

على هامش الفعالية أقيم معرض مصغّر لمقتنيات الشيخ الراحل، كان من بينها كمية منوعة من الأصداف والقواقع، كانت مفروزة حسب النوع واللون وربما المنطقة التي استخرجت منها (إلى جانب مقتنيات أخرى كالسُبح والأقلام والطوابع والخواتم وأجهزة الراديو والتسجيل والكاميرات والمجلات القديمة وعلب أعواد الكبريت...). هذا التنوع في الاهتمامات يثير إعجاب المرء بهذه الشخصية من مواليد العام 1919، ذات الطابع التقليدي، ولكن باهتمامات عصرية، في مرحلة صعبة ينشغل فيها أغلبية معاصريه بالجري وراء لقمة العيش.

لقد تحدّث عنه معاصروه بحب وشوق، فألتقط ما يقولون وأنا الذي عرفته فقط من خلال كتابه «تنفيه الخاطر»، وكنت أحدّق في صورته المعلّقة في صدر القاعة، فأرى في وجهه عينَيْ والدي تشعّان بابتسامةٍ وادعةٍ لشيخ سبعيني يمكن أن تلقاه في الطريق أو المسجد أو السوق القديم.

إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"

العدد 4398 - الأحد 21 سبتمبر 2014م الموافق 27 ذي القعدة 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 12 | 9:11 ص

      جهز مميز من الوسط ومن الكاتب

      الوسط بهكذا دور تكون هي الصحيفة الوحيدة الواقعية والموضوعية، التي تتبنى تاريخ وتراث وفكر البحرين الأصيل، وهي صاحبة المبادرات والريادة في مثل هذه الجوانب التي تشعر البحراني بانتماءه وأصالته.

    • زائر 9 | 5:35 ص

      شكراً للوسط

      الشكر الجزيل من عائلة الخطيب المرحوم الى الصحيفة الاولى في البحرين في حجم المتابعين لها
      الشكر لكل من سهم وشارك في هذه االفعالية ونسأل الله تعالى أن يوفقكم لما يحب و يرضى

    • زائر 8 | 5:18 ص

      جميل

      جميل ما كتبته صديقي قاسم
      وسام

    • زائر 7 | 3:48 ص

      سيرة عطرة

      جميع من عرفه مدحه لأنه متواضع وخلوق. هذا ما يبقى منا.

    • زائر 6 | 3:07 ص

      عرض لطيف

      عرض موجز يلخص هذه الشخصية الاولى في مجال تدوين التراث.

    • زائر 5 | 2:46 ص

      احنا وين والتراث وين

      البلد مفجوع بهدم المساجد والقتل على الهويه واغلب شبابنا بالسجون ولممد طويله انتقاما منهم قضيه التراث ينارد الها فكر صافي غير قلق يستطيع ان يبدع ويكرم رواد التراث الانساني في البحرين

    • زائر 4 | 2:03 ص

      ماحوزي

      عاصرت هذا الرجل يحمل في هدوءه كم من الحكمة و في مخيلته ثروة من التراث فكان بالفعل موسوعه علمية في الاعراق و الانساب و التاريخ خصوصا تاريخ البحرين. بجانب تواضعه و ابتسامته الدائمة. بالفعل لن ننسى هذه الشخصية العريقة.

    • زائر 3 | 10:34 م

      لا تنسون الطفل

      يا كتاب لا تنسون الطفل جهاد السميع 10 سنوات عمره
      اقفو معاه اعتبروه ابنكم اكتبو عنه

    • زائر 1 | 10:27 م

      له حكم ليت ابنائه يدوننها

      كان دائما يلقي نصائح لابنائه على شكل حكم فليت ابنائه يجمعون ما يتذكرون منها

اقرأ ايضاً