العدد 4423 - الخميس 16 أكتوبر 2014م الموافق 22 ذي الحجة 1435هـ

تأملات على هامش أعمال الدورة 69 للجمعية العامة للأمم المتحدة

محمد نعمان جلال comments [at] alwasatnews.com

سفير مصر الأسبق في الصين

تمثل الاجتماعات السنوية للجمعية العامة للأمم المتحدة بمثابة سوق عكاظ الدولي، حيث يلقي رؤساء الدول والحكومات ووزراء الخارجية من مختلف الدول، بيانات بليغة تعبّر عن سياسات دولهم ومواقفها تجاه القضايا العالمية، وأحياناً تركّز بعض الدول على قضايا محددة تهمها أو ترتبط بمصالحها واستراتجياتها. فالولايات المتحدة ركزت على الإرهاب وتنظيم “داعش” والتحالف الدولي لمقاومته، وتطرق الرئيس الأميركي بعبارات موجزة لقضايا أخرى محدودة.

ونلاحظ بالمقابل أن بعض الدول الصغيرة محدودة التأثير الدولي والقوة الدولية، تشير إلى العديد من القضايا بهدف إثبات الوجود والمعرفة والاهتمام، وهكذا يختلف المتحدّثون كما اختلف الشعراء في سوق عكاظ التاريخي في العالم العربي قبل الإسلام، وكما اختلف الشعراء في العصر الإسلامي في الدولتين الأموية والعباسية في التناوب أو التبادل بين المديح والهجاء، وأحياناً الرثاء والغزل. فقد كانت سوق عكاظ أقرب للتجمع الدولي المعاصر وإن كان محدوداً في شبه الجزيرة العربية. أما التجمع الدولي في إطار الأمم المتحدة فقد أصبح عالمياً من حيث المشاركين فيه أو القضايا التي يطرحها قادة الدول أو وزراء الخارجية. ولا مجال للتحدث عن تلك القضايا تفصيلاً، وإنّما الإشارة فقط لبعض ملاحظات ذات طبيعة عامة ومحدودة.

الأولى: أن الرئيس الأميركي كعادته يكون ثاني متحدث في افتتاح الدورة بعد البرازيل التي جرى العرف على أن تكون أول المتحدثين، وربما لتهيئة المناخ للمشاركة الأميركية، والتي عادةً تضع نبض التوجهات الرئيسة لكلمات وفود الدول الصديقة أو الحليفة في الحرب ضد الإرهاب، كما حدث بعد 11 سبتمبر 2001، وفي سبتمبر 2014 في الحرب على “داعش” وحشد القوى الدولية للمشاركة في هذه الحرب. وهذا يدل على أن القوة هي القوة، وأن الحق يسير مع القوة وجوداً وغياباً من ناحية السياسة الدولية، ويظل الحق ضائعاً إذا لم تسنده قوة. وكم من الحقوق ضاعت خصوصاً في المجال الدولي، ولعل قضية فلسطين أبرز تلك القضايا التي ماتزال تبحث عن القوة وتعاني من غيابها، وزاد من تعقيدها عدم توافر الإرادة والإستراتيجية الموحدة ما عدا البلاغة اللفظية غير ذات المضمون من ناحية السياسة الواقعية. وكما تعلمنا في مبادئ العلوم السياسية أن علم السياسة هو علم القوة، وهو علم السلطة، وهو علم توزيع الموارد الاقتصادية، وفقاً للمصالح السياسية ومراكز القوى.

الثانية: أن الحضور الدولي للاستماع لخطاب الرئيس الأميركي يكاد يشمل جميع الدول ما عدا قلة تكاد تعد على أصابع اليد الواحدة، ثم يأخذ الحضور في التناقص مع الدول الأخرى حتى تنتهي الجلسات للمناقشة العامة لتصبح القاعة شبه فارغة، ويتدنى مستوى الحاضرين من رؤساء الدول ووزراء الخارجية إلى أعضاء دبلوماسيين من درجات صغيرة، وهذا يؤكد مجدداً الملاحظة المرتبطة بالتأمل الأول.

الثالثة: تنبع من متابعتي كباحث في العلوم السياسية، وجاء حضوري ضمن وفد مملكة البحرين كمستشار سياسي ذي مسئولية محددة بعيداً عن المشاركة السياسية الفاعلة التي تقتصر عادةً على ذوي الاختصاص من وزارة الخارجية، ولكنني كمراقب يتاح له الوقت للتأمل والتفكير وقد خلصت في هذا الإطار إلى ثلاثة تأملات:

التأمل الأول: نوعية عمل الدبلوماسية التي يقوده الوزير الشيخ خالد بن أحمد بن محمد آل خليفة، وهو عمل متنوع الأبعاد ما بين المشاركة في الاجتماعات الرسمية رفيعة المستوى والقيام بلقاءات ثنائية مهمة وتبادل الآراء حول العديد من القضايا، فضلاً عن جانب شديد الأهمية يتناساه أو ينساه كثير من الوزراء بل ربما بعض قادة الدول، وهو الجانب الإعلامي ليس فقط في مخاطبة الرأي العام الوطني والرأي العام في الأمم المتحدة، بل وأيضاً الرأي العام الأميركي كقوة عظمى عبر الأدوات الإعلامية الفاعلة مثل القنوات الفضائية الكبرى المؤثرة أو اللوبيات ذات التأثير في أصحاب القرار السياسي. وكما هو معروف فإن النظام السياسي الأميركي يعتمد بدرجة كبيرة على مراكز الأبحاث ووسائل الإعلام واللوبي داخل النظام لمختلف القضايا والتجمعات الدولية، وهو ما قام به الشيخ خالد خير قيام. فضلاً عن اهتمامه بالتواصل الاجتماعي عبر “التويتر” وغيره من أدوات التواصل الحديثة.

التأمل الثاني: النشاط الجم والتنظيم الدقيق لأعضاء الوفد في نيويورك الذي اضطلع به المندوب الدائم جمال الرويعي وأعضاء البعثة، والتفاني في أداء مهامهم من ناحية، وتسهيل عمل الوفد القادم من البحرين من ناحية أخرى، حيث برز التميز في دقة التنظيم والمتابعة، وهذا ما يعبّر عن قدرة وكفاءة الدبلوماسية البحرينية وما لديها من كوادر.

التأمل الثالث: وهو يرتبط بالفكر المستقبلي حيث دأبت وزارة الخارجية على إيفاد عدد من الدبلوماسيين والدبلوماسيات الناشئين لمتابعة أعمال الدورة وحضور الاجتماعات، وهذا يدل على الإدارة الحكيمة للعمل الدبلوماسي بوزارة الخارجية وحسن اختيارها لمن يتابع هذه العملية التعليمية، وهو السفير فيصل الزياني. وأنا من المؤمنين بقدرات أبناء وبنات البحرين بوجه عام وبوزارة الخارجية بوجه خاص، وأقول أن البحرين كدولة وكشعب، كانت سباقة في اكتساب العلم والمعرفة وتدريب الكوادر البشرية قبل كثير من دول الخليج، فقد كانت حضارة دلمون تقوم على إجادة فنون الصيد والتجارة والثقافة منذ زمن بعيد، وتطورات تلك الفنون بتطور الزمن. فالموارد البشرية في البحرين هي أهم ثروة لها، إذا أحسن استخدامها والاستفادة بها.

وحديثي عن التأملات الثلاثة السابقة لا ينبغي أن يفهم على أن هذا هو أقصى ما كان من إنجازات الوفد، بل ساهم كبار السفراء المرافقين للوزير مساهمات قيمة كل في مجاله. ولذلك كمراقب ومتأمل من بعيد وقريب في آن واحد، شعرت بالفخر لما حققته الدبلوماسية البحرينية والتي أمامها تحديات كبرى في مرحلة ذات حساسية بالغة وذات أهمية كبيرة، ومن الضروري مواصلة الاهتمام بالموارد البشرية وتدريبها وإعطائها مزيداً من الفرص لتحقيق ذاتها. ولهذا لا عجب ان اهتم وزير الخارجية بأجيال الشباب وتدريبهم وتهيئتهم لتولي المناصب المهمة في المستقبل، وحبذا لو اقتدت مختلف الوزارات والمؤسسات بكوادرها كما تهتم بذلك وزارة الخارجية.

الرابعة: التواجد الإيجابي للهيئة العليا لشئون البيئة بوفد نشط برئاسة محمد بن دينه، ولاشك أن قضية البيئة تعد من أهم التحديات التي تواجه مملكة البحرين، نظراً للظاهرة المعروفة بالدفيئة، التي ينجم عنها ارتفاع منسوب مياه المحيطات لذوبان الثلوج نتيجة ارتفاع درجة الحرارة، وهو أمر يهدد بإغراق مناطق عديدة في مختلف الدول والقارات. ولذلك فإن مسألة الاهتمام بالدول الصغيرة النامية الجزرية تعد مسألةً حيويةً، وقد أولتها الأمم المتحدة رعاية خاصة، وعقدت لها عدة اجتماعات منها الاجتماع على مستوى القمة والخاص بالمناخ على هامش الدورة العادية (69) للأمم المتحدة، فضلاً عن اجتماع للدول الجزرية على مستوى الكوادر من كبار المسئولين قبل فترة وجيزة من اجتماعات الجمعية العامة، وإفراد السكرتير العام للأمم المتحدة بان كي كون فقرة رئيسة في تقريره عن أعمال المنظمة الذي ألقاه في افتتاح تلك الدورة للتحدث عن المناخ ووضع الدول النامية الجزرية.

لاشك أن التحدث عن الأمم المتحدة والدورة 69 ومشاركة البحرين هو حديث ذو شجون بالنسبة لي، حيث عشت وشاركت بفاعلية في 6 دورات للجمعية العامة كمستشار، ثم كمندوب مناوب لوفد مصر في الأمم المتحدة من الفترة 1987- 1992، وهو حديث يطول لما فيه من ذكريات وتجارب مفيدة لكل دبلوماسي.

تلك بعض تأملات سريعة ودعواتي للدبلوماسية البحرينية، بتوجيهات جلالة الملك المفدى وبخبرة وزير الخارجية، بمزيد من الإنجاز والأداء المتميز.

إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"

العدد 4423 - الخميس 16 أكتوبر 2014م الموافق 22 ذي الحجة 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً