العدد 4436 - الأربعاء 29 أكتوبر 2014م الموافق 05 محرم 1436هـ

أنصاف الحقوق وغسْل الصحون!

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

هنالك من ينتقص حقه، ولا يريده كاملاً؛ أو لا يريده أساساً؛ ولا نحتاج إلى سرْد نماذج بين البشر اليوم، ممن هم بيننا، وحتى أولئك الذين تفصل بيننا وبينهم آلاف الأميال في بقاع شتى من العالم.

لا خير في حق مُنتقص ومبتور. لا خير في حق - أي حق - يتم تقريره بحسب ما ترى وترغب الجهات والأطراف التي تحدّده، وبما يتناسب وحمايتها واحتياطاتها وهوسها وعدم ثقتها، وحالات الشك التي تعتريها، وقد تحوّلت إلى مَرَض.

في انتقاص الحق، حق أي إنسان، انتقاص لقيمته. يتم النظر إليه، والتعامل معه باعتباره كائناً ناقصاً. وفي انتقاص القيمة، تجيير وتسخير لانتقاص المزيد أو ما تبقى منها. وبالبديهة نعرف أن صور استعباد الإنسان والأمم تبدأ أحياناً بالتدرّج. سلبه/ سلبها حقاً ربما لا يشعر/ تشعر بأهميته؛ أو يتهاون/ تتهاون بقيمته، ويجرّ ذلك السلب حقوقاً تتْرى لتنتهي بالارتهان والتبعية؛ وبحكم العادة تتحوّل مصادرة الحق كله إلى ضرب من العرْف. وفي مثل ذلك العرْف حين يتحول إلى ممارسة يومية وقانون، لا فرق يمكن اكتشافه بين حياة أو موت لذلك الإنسان.

هنالك حقوق إذا تم المسّ بجزء أو شيء منها لا تعود واقعاً متحققة بتبعيضها. نصف الحرية تعني أنها غير متحققة. نصف الخيار لا يدل على الخيار. نصف المشاركة في تقرير المصير، لا يُعَدُّ مشاركة. نصف الصدق بين هذا وذاك لا يعد صدقاً. كما أن نصف الكذب لا يدل على الصدق. لا أنصاف في كل ذلك. محاولة تبعيضه/ تبعيضها لا تختلف؛ وإن لجأنا إلى المجاز، عن نفيه/ نفيها مصادرته/ مصادرتها.

في المعادلة المُتلاعَب بها عربياً، أنه في حال من «التكرّم» لا تتم ممارسة ذلك التبعيض للحقوق؛ بل تتم مباشرتها باعتبارها دون الفتات الذي يقدّم على مضض. من البرلمانات الصورية... المُواطَنة... حرية الحق في التعبير... الكشف عن الفساد وصوره ومَوَاطِنِه، وهو حق تكفله الدساتير المحترمة... التداول السلمي للسلطة... وقائمة طويلة من الحقوق، في مقابل قائمة طويلة من الواجبات، وبما ينظم الحياة، ويجعلها سَلِسَة... سهلة... تبعث على التنافس، في ظل تكافؤ الفرص، وتكشف عن كمٍّ من الطاقات الخلاقة، والإبداع، وتحقيق الإضافات التي تعزّز روعة تلك الحياة.

تكرّست طويلاً أساليب ترويج الاقتناع بنصف الحقوق، ونصف البرلمانات، ونصف المشاركة، ونصف المُواطنة - إذا تحقق النصف أساساً - ونصف الحق في التعبير، ونصف الدور في كشف الفساد بكل أشكاله ومسمياته ومَوَاطنه، ونصف الخيار، أي خيار. مثل ذلك التكريس لا يُوجد ولا يخلق شعوباً إلا بنصف وجود؛ إن لم تكن في صميم العدم - وهي كذلك - بالتغييب والإقصاء والوصاية عليها من المهد إلى اللحد، وكأنها لا تمر بأطوار النمو والنضج الذي تمر به المخلوقات في بقية أرض الله، وتظل تعاني من القصور؛ في ما يُقرر ويُرسم لها؛ ويجد ذلك التكريس في دول تلك هي طبيعتها وأداؤها من يصفّق ويسهم في الترويج له؛ بل ويحرّض على إدامته وتوفير الضوابط «التشريعية والقانونية» له!

لا كبير فرْق يمكن أن نقف عليه إذا ما استدعينا النتائج التي يمكن تحصيلها وتحقيقها من أنصاف الحلول أيضاً. لا منطق يقول بأنصاف أو أرباع أو أثلاث الحلول. من يريد وضع حد للمشكلات التي تحاصره وتكتم على أنفاسه وتشل تفكيره، عليه البحث عن حلول غير منقوصة، وغير مرقّعة. وحقوق وضرورات البشر بتجزيئها لا تحقق حلولاً دائمة؛ بل هي تربة خصبة لتطل المشكلات برأسها وتتسيّد المشهد كلما استجدّ انتهاك، واستأنف تجاوز.

اليوم، وضمن شواهد لا يمكن الإحاطة بها جميعاً، يتم إنشاء برلمانات بعد أن تم التمهيد لقيامها بعشرات ومئات الضحايا الذين سعوا إلى تحقيقها، ضمن قائمة طويلة من المطالبات بالحقوق، هي في واقعها فخاخ يقبل عليها أولئك الذين ارتضوا حقوقهم منقوصة؛ ولا مشكلة لديهم في مصادرتها.

تلك البرلمانات تكرّس الحقوق المنقوصة، والأداء المروَّض وتم تحديد المساحة لها بحيث لا تشكِّل خطراً، وفيها أعضاء لا مشكلة لدى غالبيتهم أن يُجرّد البشر حتى مما يستر عوراتهم ماداموا في العمق من المكاسب، والمباشر من الوجاهة الزائفة، وفي الصفوف الأولى من حفلات الاستقبال أو «الإدبار»!

ومع كل دورات أو فصول تشريعية؛ ستتواصل ممارسة النصْب نفسه، والكذب نفسه، والبرامج «الخارقة للعادة» نفسها التي تَعِدُ الناس بالخرافة؛ فيما الناس يحاولون أن يكونوا على اتصال وتواصل مع واقعهم، من دون إضافات ودجل تسهم في تسويقه آلة ضخمة هي في واقعها تروّج للإرغام؛ لضمان استمرار الانتقاص من تلك الحقوق، والإمعان في الاحتياط لمن حضَّروا الوصفة تلك وأشرفوا على إعدادها وطبخها وتقديمها إلى الجمهور الذي سيتولى في النهاية غسل الصحون التي لم تحوِ شيئاً في حقيقة الأمر!

قد أحتاج هنا استدراكاً يتعلّق بشاهد غَسْل الصحون؛ يتحدّد في أن هنالك من يُتْخَم مما يعدّ من طبخات برؤية هزال البشر الذين لا أثر يذكر لتلك الطبخة على بنيتهم وجهاز مناعتهم، بترك وظيفة غسْل الصحون لهم!

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 4436 - الأربعاء 29 أكتوبر 2014م الموافق 05 محرم 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 8 | 10:31 ص

      كونوا احرارا في دنياكم

      الفطره السليمه تابى الاذلال والخنوع الا لله خلقنا الله احرار

    • المتمردة نعم | 4:54 ص

      المتمردة نعم

      يا استاذي لما تكون غير مؤمن بحقك فسوف تتنازل عن ثلاثة ارباع حقك ومستقبلاً ربما تتنازل عنه برمته.وهذي مشكلة البعض هنا عقله مغسول جد آثر غسل الصحون ...................لا زال الجمري ايقونة الوسط الى الامام دوماً.

    • زائر 4 | 1:41 ص

      هل يقبل هؤلاء بأن يشلّ نصف جسدهم؟

      مقولة انصاف الحلول لا تصلح في كل الاحيان فهل يقبل احد هؤلاء بأن يكون نصف جسمه مشلولا؟

    • زائر 3 | 1:16 ص

      المختار الثقفي

      قال تعالى: بل الإنسان على نفسه بصيرة وألقى معاذيره...
      مهما تشدق البعض وقال أنا وأنا وزين لنفسه ما يقوم به من أعمال شيطانية تجاه الطرف الاخر من اقصاء وسجن وقتل وسحل وإبعاد وألقى للدول وجمعيات حقوق الإنسان اعذاره في ذلك وتشدقه بالتزام الشرايع والاديان فهو أعلم الناس بنفسه من ظلم لعباد الله
      في النهاية ونحن في الشهر الحرام لا ننسى ان نقول قول الامام الحسين عليه السلام: الناس (الحكام) عبيد الدنيا والدين لعق على ألسنتهم يحوطونه ما درت معائشهم فإذا محصوا بالبلاء قل الديانون

    • زائر 2 | 12:14 ص

      انهم انصاص المسلمين

      لماذا التخلف لدينا لماذا الحكم المطلق عندنا لماذا تطبيق القانون على الضعيف ان ذلك يعود كوننا مسلمين وان استثنينأ بعض الدول كماليزيا مثلا فالعيب في الشعوب المانعة للعبودية لكنك ترى مبادىء وروح الاسلام في القوانين المطبقة في البلدان الغربية وبالمختصر الاسلام هناك

    • زائر 1 | 11:55 م

      غسل العقول قبل غسل البطون استدراكا

      مكامن العلل تتأتى في أن القائم على عملية الطبخ لم يتعلم او يتعض من تاريخ الطبخ العالمي،فحتى لو أجاد الطبخة فطحلة فسيكون مثواها مجارير البواليع،ويكون حينها الكل خاسر... الطباخ، و معاونوه ، و المشرفين عليه، و الحالمين أيضاً....كلهم سوف يغسلون الصحون. أما الجائعين القانعين القانتين سيشرق عليهم شمس جديد.

اقرأ ايضاً