العدد 4437 - الخميس 30 أكتوبر 2014م الموافق 06 محرم 1436هـ

حول الندوة الدولية في ذكرى 2565 لميلاد كونفوشيوس

محمد نعمان جلال comments [at] alwasatnews.com

سفير مصر الأسبق في الصين

عقدت “جمعية كونفوشيوس الدولية” ندوة دولية كبرى حضرها حوالي 400 شخصية من الصين ومن عدة دول، من بينها باحث من مملكة البحرين، هو رئيس قسم البحوث في مجلس النواب، حسام الدين جابر، وذلك في الفترة من 24-28 سبتمبر/ أيلول 2014، إذ أن ميلاد كونفوشيوس كان في 25 سبتمبر. كما قامت الوفود بزيارة مسقط رأس كونفوشيوس وضريحه، وقد شملت أعمال الندوة جانباً بحثياً، حيث قدم المشاركون أبحاثهم ودراساتهم عن كونفوشيوس في مختلف المجالات.

وكان كاتب هذه السطور أحد هؤلاء الباحثين، حيث قدّم دراسة متعمقة بعنوان “كونفوشيوس والعلاقات الدولية”، حظيت باهتمام كبير من المشاركين الصينيين والأجانب، ونشرت في مجلد البحوث والدراسات للندوة، وتناولت المفاهيم الرئيسة في فلسفة كونفوشيوس وخصوصاً مفهوم التناغم ومفهوم الصراع، باعتبارهما أهم مبدأين تعرّضت لهما الفلسفة الصينية بوجه عام وفلسفة كونفوشيوس، الذي يعتبر أعظم مفكّري الصين عبر العصور، ولفلسفته قدرة عجيبة على الحياة في ظل الصعاب والتعنت في فترة الحكم الشيوعي القاسي أثناء الثورة الثقافية. وكان ماوتسي تونج من أكثر من هاجم كونفوشيوس، ومع ذلك كان كثير الاقتباس من أقواله في كتاباته دون الإشارة إليه.

كما تعرّضت الورقة البحثية للسمات الخاصة للحضارة الصينية في نظرتها للعلاقات الدولية، وفي انتهاجها نهج الواقعية التجريبية Empirical Realism. وخلصت الدراسة إلى أن فلسفة كونفوشيوس ماتزال ملائمة للتطور المعاصر في العلاقات الدولية، وأن مبدأ التناغم يمكنه أن يجنب العالم ويلات الحروب المدمّرة، وأنه يتماشي مع الدعوة للتنوع العالمي في إطار من الوحدة، وهو مبدأ عبرت عنه الفلسفة الصينية والفلسفة الهندوسية، وكذلك عبّر عنه التراث الإسلامي الذي أكّد وحدانية الله وأصل الخليقة من آدم وحواء، ولكن إرادة الله أن يجعل البشر شعوباً وقبائل ليتعارفوا، فجعل التنوع مرتبطاً بالوحدة مع الهدف الأسمى هو الدخول في علاقات ودية بين الدول.

وقدمت في الندوة أبحاث عديدة تناولت “الكونفوشية والإنسانية”، العلاقة بين الإسلام والكونفوشية، وكان ذلك أحد البحوث التي قدمتها باحثة يابانية؛ الكونفوشية والسلام العالمي، أهمية القيم الكونفوشية في العالم المعاصر، الكونفوشية والعلمانية، الكونفوشية والقوة الناعمة للصين، الكونفوشية والتاوية، الكونفوشية والأمن العالمي والإقليمي، الكونفوشية والعولمة، نهوض الصين وأفريقيا في ضوء المبادئ والمثل الأفريقية والفلسفة الكونفوشية والعلاقات مع أميركا اللاتينية، الحكم بالفضيلة والحكم بالقانون؛ وكذلك أثر الفلسفة الكونفوشية في عدد من الدول مثل البرتغال والمجر وأندونيسيا وشبه القارة الهندية وأفريقيا وفيتنام واليابان وأوروبا؛ وعلاقة المبادئ الكونفوشية بالبيئة والحفاظ عليها ودور الكونفوشية في التعليم والوظائف المدنية في الحضارة الصينية. ويمكننا الإشارة إلى ثلاث ملاحظات حول هذه الندوة العالمية.

الأولى: إن كونفوشيوس في هذه الندوة وُلد من جديد، حيث أصبح فكره أكثر انتشاراً في العديد من الدول، وكذلك تعاليمه، والأكثر إثارة هو إضفاء نوعٍ من التقديس عند ضريح كونفوشيوس، وهو تقديس لا يتماشى مع الفكر الشيوعي، ولا مع تعاليم كونفوشيوس، الذي هو معلم كبير ولم يدّع أنه نبي أو رسول أو صاحب عقيدة دينية، وإن كان بعض المشاركين أشاروا إلى تحوّل فكره إلى دين في بلادهم.

الثانية: إن حضارة الصين القديمة أثبتت أنها أكثر ثباتاً وصلابةً عن الفلسفات الحديثة مثل الشيوعية، وأقامت معاهد باسم كونفوشيوس لتدريس ثقافتها ولغتها، ومن بينها معاهد في عدد من الدول العربية والأوروبية وآسيا وأميركا الشمالية وأميركا اللاتينية. وقد أصبحت هذه المعاهد تنافس نظيراتها مثل معهد جوته (المفكر والفيلسوف الألماني)، والمراكز الثقافية البريطانية والفرنسية والأميركية وغيرها.

الثالثة: أن الصين المعاصرة أصبحت تتماشى مع تقاليدها الحضارية القديمة، حيث تركّز في علاقاتها مع الدول الأخرى على القوة الناعمة وفي مقدمتها الثقافة، وفي هذه الثقافة يحتل فكر كونفوشيوس مكانةً متميّزة.

ولعله مما يذكر أن الحضارة الصينية قامت وانتشرت نتيجة التجارة التي قام فيها طريق الحرير بدور رئيس، والثقافة التي نشرها الفكر الكونفوشيوسي والذي اهتم به الغرب منذ عصر النهضة وترجمة المؤلفات الصينية والفلسفة الصينية السياسية إلى اللغات الغربية المتعددة، وخصوصاً الفرنسية والانجليزية والألمانية. وأضيف إلى ذلك اهتمام الصين المعاصرة بإحياء لغة “الماندرين” وعقد المؤتمرات السنوية لتوحيد اللهجات. وتبث إذاعة الصين والفضائيات بلهجة الماندرين، ويقتصر استخدام اللهجات المحلية والإقليمية في أقاليم الصين المتعددة والتي لدى كل منها أكثر من محطة إذاعية أو فضائية. ولعل الهدف الأسمى هو جعل اللهجة واللغة القومية هي أساس الفكر والثقافة والممارسة العملية، مع احترام اللهجات المحلية تكاد تتحوّل إلى لغات في الفضائيات وما تبثه من تمثيليات وأفلام وأحياناً في كتابات الصحافيين وفي المسرحيات، ناهيك عن لهجات المثقفين والسياسيين.

وهذا أدى إلى إضعاف اللغة العربية التي هي أساس الوحدة العربية، وقد كتبت مقالاً منذ 15 عاماً عندما كنت سفيراً في الصين بعنوان “الأمم القوية والأمم الضعيفة”، تعليقاً على المؤتمر السنوي عن اللغة الصينية آنذاك. فأية أمة تموت لغتها يضعف بل يموت الرابط القوى بين المنتمين إليها ويصبحون كالغرباء، وهذا يعزز الانقسام والاختلاف .

ولعلني اختتم بالقول إنه في الوقت الذي تحرص فيه الصين على تعزيز وحدتها وإحياء تراثها من منظورٍ حديثٍ يحقق التقدم، ولا يحبس نفسه في الماضي، وفي الوقت الذي تحافظ فيه الهند على وحدتها رغم تعدد اللغات والأديان والعقائد، فإن العالم العربي يفعل العكس.

كما أضيف أنه في الوقت الذي تعمل فيه أوروبا على الوحدة، فإن العرب يعملون للفرقة أو التمزق. وفي الوقت الذي تهتم فيه الصين بتراثها وإبراز أنه يناسب العصر الحديث، يظهر لدى المسلمين أناسٌ أشد تخلفاً وأكثر توحشاً، أساءوا إلى الإسلام الذي هو دين التسامح والاعتدال والسلام، كما أساءوا للمسلمين الذين أصبحوا موضع شبهة وشكوك واتهام في كل مكان، بأنهم إرهابيون.

ترى هل تظهر دولةٌ ما تعيد التراث الإسلامي الصحيح كما تفعل الصين مع تراثها؟ أو كما يفعل الألمان مع جوته؟ وغيرهم، أم يظهر علينا فقط أناسٌ بلا عقول، يقتلون ويجزّون رؤوس الناس ويسبون النساء ويضطهدون الأقليات ونحن نتعاون مع الغرب لقتالهم لأنهم أشد خطراً على الإسلام والمسلمين من أيّ خطرٍ يهددنا، فأين هم المثقفون وأين هم رجال الدين المستنيرون؟ وأين السياسيون العقلانيون لتقديم استجابة حقيقية وفاعلة لمواجهة الكارثة الكبرى الذي أحاطت بنا جميعاً؟

إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"

العدد 4437 - الخميس 30 أكتوبر 2014م الموافق 06 محرم 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً