العدد 4438 - الجمعة 31 أكتوبر 2014م الموافق 07 محرم 1436هـ

سيف الماضي على الحاضر

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

لفتني قبل فترة، تقريرٌ لوكالة الأنباء الفرنسية نُشِرَ تحت عنوان: «كيف يُدرَّس الأطفال الحرب العالمية الأولى في الدول التي كانت متناحرة؟». التقرير عَدَّد مجموعةً من الدول الأوروبية والغربية التي مَسَحَها من أهمها: فرنسا، وبريطانيا، وإيطاليا، وألمانيا، والولايات المتحدة الأميركية.

النَّص يشير إلى طبيعة تعاطي تلك الدول وشعوبها للأحداث المدمِّرة التي حلَّت عليهم مجتمعين جراء الحرب الكونية الأولى (1914– 1918)، التي أفرزت خمسة ملايين لاجئ في أوروبا خلال ثمانية أعوام فقط أثناء سنوات الحرب وما تلاها، فضلاً عن ثمانية ملايين ونصف المليون قتيل، وملايين الجرحى، والأراضي المقتَطَعة بين الدول، والتعويضات الباهظة التي فُرِضَت على المغلوبين، وبالتحديد الألمان بعد معاهدة فرساي الشهيرة.

يتحدث التقرير حول الفرنسيين وكيف أنهم يتعلمون «عن معركة فردان الشهيرة في العام 1916 ودور جورج بنجامين كليمنصو رئيس وزرائهم»، و»خارطة أوروبا الجديدة المنبثقة عنها» و»معاناة المقاتلين في الخنادق». أما البريطانيون فيُدرِّسون النزاع «بشكل عام» ويكتفون بوصفه على أنه «كارثة إنسانية» دون استفاضة في تعقيدات الملفيْن السياسي والعسكري. وهم يُركِّزون فقط على «معركة السوم» التي جرت بين الألمان من جهة والبريطانيين والفرنسيين من جهة أخرى العام 1916، وكذلك عن «حياة الخنادق».

عند الألمان الذين كانوا دولاب القتال، فإن «دراسة الحرب العالمية الأولى في معظم الأحيان مقتضبة جداً»، بل إنهم «ينأون بأنفسهم عن الإمبراطورية الألمانية في سنة 1914 التي لا يشعرون بأنها تمثلهم»، حسب أوسنبروك راينر بنديك الذي يُشير بأن «الحرب الكبرى تظهر في أغلب الأحيان كنتيجة لإمبريالية القرن الـ19، دون تقديم تفاصيل عن المعارك والدمار».

أما الإيطاليون فـ «لا تحتل الحرب الكبرى مكانة مركزية في البرامج التعليمية» لديهم كما أشار إلى ذلك أحد أعضاء جمعية أساتذة التاريخ والجغرافيا. ويتركز التعليم عند الطليان على «الحياة في الجبهة ومعاناة الجنود أكثر من الجوانب الإستراتيجية والسياسية»، رابطين ذلك بـ «انبثاق الفاشية التي هزت إيطاليا خلال الحرب العالمية الثانية» بشكل نقدي.

النموذج الأخير وهو الولايات المتحدة الأميركية، وحسب التقرير فقد «تُركت مكانة هذا النزاع في التعليم لمبادرة الأستاذ نظراً لغياب برنامج تاريخ وطني». وقد استفتى محرّر التقرير أستاذ التاريخ في المدرسة الأميركية بباريس، غوهان سيمن الذي قال: «إذا كان الأستاذ وطنياً فإنه لن يركّز إلا على الطريقة التي أثرت بها الحرب العالمية الأولى على الولايات المتحدة».

الحقيقة أن هذا التقرير مهم كي نكتشف تعاطي الغرب ليس فقط مع تاريخه في الحرب العالمية الأولى، بل مع تاريخه في الصراعات الأقدم حيث الحروب الدينية التي حصلت في أوروبا خلال القرنين الخامس والسادس عشر وموقعها في وجدانه. فالغرب ينظر إلى تلك الحروب التي أضرَّت بوحدته وهويته على أنها حقبة سوداء لا يجتهد في أحداثها بغية الانتصار إلى جزء من أبطالها أو شعاراتهم. وهو قد بدأ في هذا الأمر منذ انبلاج عصر الأنوار في أرضه.

هو لم يعد راغباً في إشعال ثارات دينية من أجل هانس هوت في أوغسبورغ سنة 1527، ولا من أجل أغسطينوس بادير في شتوتغارت، بل ولا من أجل أربعة ملايين فرنسي قُتِلُوا في معارك الجهل الديني بين عامَيْ 1560– 1598 ومعهم ألفان من الأناباتيست. هذا الأمر مُدرَك لديهم بشكل تام، وهم يتعاطون معه بحذر وذكاء وهدوء ودون حفر وتنقيب.

وبالعودة مرة أخرى إلى تعاطي الغربيين مع تداعيات الحرب العالمية الأولى التي تعتبر إحدى الدروس التي تعلمها من صراعاته الأقدم، سنرى حجم العضّ على الجراح مرة أخرى كي لا يتم نكأها فتتدفق دماء الغاضبين وصرخاتهم في قبضات البنادق وشرر العيون. الألمان قُتِلَ منهم 1.773.700 مليون إنسان، وجُرِحَ لديهم 4.216.058 ملايين آخرين، وفُقِدَ من عندهم 1.152.800 مليون، لكنهم لا يريدون فتح الجرح.

الفرنسيون فقدوا 1.357.800 مليون مع 4.266.000 ملايين من الجرحى، وفُقِد من أبنائهم 537.000 ألفاً لكنهم لا يتحدثون عن ذلك إلاِّ لماماً. وكذلك الحال بالنسبة للعديد من الدول المتهارشة آنذاك، على الرغم من أن أحفادهم لايزالون على قيد الحياة لكنهم لا يطلبون ثأراً من أحد.

أمام هذا كله، دعونا نتفكر نحن في طريقة تعاطينا مع تاريخ الصراعات لدينا. أنا لا أتحدث عن التعاطي الرسمي في المدارس بالتحديد ولكن تعاطينا نحن كأفراد وجماعات وقيادات سياسية ودينية. ليس تاريخنا القريب الذي يحاكي معاركنا مع العثمانيين أو البرتغاليين، بل التاريخ الأبعد حيث معارك الخلاف الديني والفكري، التي ألقت بظلالها على تاريخنا العربي ثم علاقة المسلمين ببعضهم وما فعلته بالنسيج الاجتماعي.

فالمعارك التي نشبت بين المسلمين، وتالياً الخلاف الفكري الذي بدأ يعتمل، ويبرز على شكل مدارس إسلامية متباينة، أفضت إلى نزاعات واغتيالات إلى الحد الذي قُتِلَ فيه أئمة وخلفاء وفقهاء. ثم تأتي المشكلة الأكبر في ترجمتنا للعلاقة المفترضة بين حاضرنا وبين ذلك التاريخ حيث لم تقتصر على السَّرد البسيط، بل امتدت نحو تصنيفنا للإنسانية وأصحاب الأديان والمسلمين حتى، وبطريقة استعلائية لا رحمة فيها ولا ضمير.

البعض يريد منا أن نبقى أمة تعيش في التاريخ وصراعاته، ومن أجل ذلك التاريخ، وتبدأ يومها وتُنهيه بذلك التاريخ، وتنسج علاقاتها وعواطفها ومصالحها على أثير ذلك التاريخ! إنها قمة الغفلة. والحقيقة التي يجب أن تقال هنا، أن كافة الصراعات التي تنشب اليوم تحت أرجلنا وبين ظهرانينا هي صراعات ذات جذور دينية طائفية، لن تنتهي إلاَّ بإعادة معالجتنا لطريقة تفسيرنا لها.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 4438 - الجمعة 31 أكتوبر 2014م الموافق 07 محرم 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 4 | 8:35 ص

      ملاحظة

      نحن بين المصلحة العامة والامانة التاريخية في ازمة حقيقية فلو راعينا المصلحة سنجافي الحقيقة ونسوي بين الظالم والمظلوم ونسمع للفاسد والمجرم ان يكون مسويا للصالحين فقط للمصلحة..اليس كذلك؟

    • زائر 2 | 2:50 ص

      يا أستاذ قياسك فيه مشاكل

      أولا الدول التي ضربتها مثلا فإنما النفاق نهجها! تراها تتغاضى عن جزء من حقائق التاريخ رجاء لحاضر أفضل -مع علمنا أن هؤلا تسيرهم المادة فقط- ولكن تراها ذات الحين تصر على الالتزام بمظلومية الهولوكاست المشبوهة تاريخيا!
      تريد أن تضرب مثلا في التناسي والتسامح؟ ما رأيك في الشعبين والحكومتين العراقي والإيراني الذي نسي حرب الثمان سنوات الطاحنة؟ ترى جموع العراقيين في مشهد وجموع الإيرانيين في نجف و كربلاء وما كأن هذا ذبح في ذاك و ذاك ذاق الويل من هذا.. بل ويشهد المراقبون أن الضغينة كلما لها في اندثار!

    • زائر 3 زائر 2 | 4:47 ص

      بالعكس

      يتزاورون في الأمكنة لكن يتنافرون في القلوب والشواهد في ذلك ألسنتهم!

اقرأ ايضاً