العدد 4440 - الأحد 02 نوفمبر 2014م الموافق 09 محرم 1436هـ

سلامٌ عليكَ... «أردتَها كوناً من لذة الروح»

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

«فالحسين في جوهره وحقيقته، يومٌ من أيام النبوّة، وهذا أكبر له وأرحب وأغنى وأحبّ».

تلك ومْضَةٌ من ضوء غامر من «مَنْبَهَة» كما سمّاها - بالمتعارف عليه- «مقدِّمة» العلامة الفقيه واللغوي والإصلاحي التنويري اللبناني الراحل، الشيخ عبدالله العلايلي، في كتابه «مشاهد وقصص من أيام النبوَّة»، وكان قد دفع به إلى النشر قبل العام 1947، حاملاً عنوان «من أيام الحسين»، عن «دار العلْم للملايين»، لتصدره «دار الجديد» في العام 1993، في طبعة، حاملاً العنوان المشار إليه.

بتجربتي الشخصية، وما وقع بين يديّ، منذ الوعي الأول على التعدّد في القراءة دون النظر إلى دين ومذهب كاتب، أجد أكثر الكتابات دفئاً وحرارة، وعمقاً، عن كربلاء وأهل البيت، تلك التي يتصدّى لها، ويُبرزها الذين نأوا بأنفسهم عن الطائفية المقيتة، التي تحوّلت إلى وباء اسْتشرى خطره في الأمَّة التي من المفترض أن تكون واحدة... جامعة، بالدِّين الذي حقَّق وحدتها واجتماعها؛ وإن ذهبت «الخيريَّة» بصيغتها في النص المقدَّس إلى تقرير تحولّها إلى ماضٍ في زمن ليس بعيداً عن زمن النبوّة، وهي منشغلة بالخيرية تلك «كنتم خير أمة أخرجت للناس»، وأحسب أن ذلك سببه مباضع تقسيم وشق تلك العُرى، ومعاول التفتيت التي لم تأتِ من كوكب مجهول؛ بل هي من بيوت ومساجد وجامعات وأسواق انبثقت، وقبلها، من نفوس مريضة أمعنت في ذلك التقسيم والتفتيت، وجدت في ذلك الواقع الغلبة، واستقرار الأمر، وتنامي المنافع، وكل ذلك محْض وهم؛ بل محْض نار سيكون مسجّرها أول المحترقين بلهبها.

ومن بين إخوتنا الذين نأوا بأنفسهم عن الطائفية تلك، كتّابٌ وفقهاءُ من مذهب أهل السنّة والجماعة، يأتي في مقدمتهم العلامة العلايلي، من دون نسيان، خالد محمد خالد، وعباس محمود العقاد وعبدالرحمن الشرقاوي؛ وإن لم تخْل كتابات إخوة لنا في الخلق والأوطان من المسيحيين من ذلك الدفء والوهج وتوقّد العاطفة وصدق المسعى؛ ذلك أن المُثُل في دنيا الناس، والأثر العميق الذي تخلّفه، يحجبان النظر إلى الأديان والأحساب والأنساب؛ ففي الخلق ومعدن الرجال الكثير من المعاني تختصر حقيقة كل ذلك، ذلك أنها تنطلق من تلمّس قيم ومُثُل غائبة؛ أو تم تغييبها، في هيمنة عبث الغاب ومخلوقاته، تلك التي هي بيننا في صور بشر، والشاهد فيما نرى من بهيم الفعل، حجر!

وفي ذلك نقف على المعنى، في حديثه عن أيام النبوَّة، وتحديداً في فصله «يوم المدينة»، بوعي يؤدي بنا إلى الأيام المتورّطة بالنقيض من يوم المدينة ذاك؛ وقد امتد العوار؛ بل الانحراف عن النهج، راسماً نهج أمة ستكون مدعاة تكالب واحتقار، ونسيان بين الأمم بعد قرون من رحيل نبيِّها.

يقول: «فمحمدٌ لم يصنع أمَّةً في عِداد الأمم، بل صنع أمَّة في عِداد الرسل إلى كل الأمم». ولم تعد كذلك وفي زمن لا يفصل بينه وبين أيام النبوَّة إلا سنوات، عَدْواً على آل بيته، وما تبقى من حجّة الله على خلْقه.

وفي الكتاب نفسه، يتناول العلايلي المشهديات إلى التاريخ، منطلقاً من تصحيح الرواية والخبر، نفاذاً إلى التحقيق والدراسة، نقف عليهما في كتاب آخر لا ينفصل عن الكتاب الذي بين أيدينا وهو «تاريخ الحسين: نقدٌ وتحليلٌ». النقد لا من حيث أداء البطل الشهيد وسيد الشهداء؛ بل من حيث نقد ما بعد عصر النبوّة الذي اختلّت موازينه، واتضح تضعضع تماسكه، وذوتْ فيه الفضيلة، واحتضر فيه الإنسان بالعبث الذي طال الرسالة والتجنّي على الرسول.

وفي فصله «يوم القرآن»، يمهر خاتمته بـ «اجتمعت في عليٍّ قابليات لا حدَّ لها... واجتمعت في فاطمة إشراقات لا حدَّ لها... فيوم عليٍّ وفاطمة، يوم نظرِ النبوّة إلى نفسها في المرآة». وفي الشهيد ابن الشهيد لبٌّ من ذلك النظر، ومرآةٌ حقَّ للذين صودرت ملامحهم والقيمة والأثر أن يجعلوها اختباراً لمعنى وجودهم، تجليّاً لوجوده المقيم بعد انهمار الدم في نهار المذبحة! وبعد استعراض آله في الفلوات والعواصم الخائنة!

وصولاً إلى فصل «استشارة»، تتبُّعاً لروح الحسين عليه السلام، وآياته الأخلاقية بين الناس، إنكاراً للذات، وتطلّعاً إلى انتشال الأمة في زمنه، وما بعد زمنه، من تداعٍ في الأخلاق، وتغييب للموقف، بل واستهدافه والحيلولة دون امتداده. يقرأ واقعاً يبني على الفساد، وفي ذلك «ترميم للفساد، واصطناع لفساد آخر جديد». يقرأ الحسينَ في امتداد النبوَّة وأيامها، والأقدر على تمثّل الرحمة التي جاء بها جدُّه إلى العالمين. رحمة ألاّ تركن إلى نفسها، وتأوي إلى صلفها، وتستدعي إيقاظ الحنين لجاهليات لمّا تندثر بعد في نفوس كثيرين. يقرأ الواقع «البركان نذير انقلاب... وكان الحسينُ بركانَ الإصلاح، وقد مضى كل مصلح بقبس من ذلك البركان، يرسله مناراً يهدي في الحَلَك».

«أردتَها كوناً من لذة الروح، ولو في شعور الأعصاب بالألم، وأرادوها كوناً من لذة الأعصاب، ولو في شعور الروح بالألم، فاستحالت الآلام الكبرى، في حسِّ الناس، لذة كبرى في حسِّك».

تلك ما قبل خاتمة العلاّمة العلايلي، في كتابه «مشاهد وقصص... من أيام النبوَّة». والحسين أكبر من أن يُختَم وفيه ومنه البدء والمبتدأ، وهو الروح التي تسامت على الحياة التي رأى الموت مقيماً فيها، في نفوس الذين لم يبرحوا جاهليتهم، وهو الروح التي تسامت على الموت بذلك الدويِّ الذي خلَّفه الدم بعد قرون، وهو المَثَل والشاهد اليتيم في أزمنة يرى بعض الناس التضحية ضرباً من الانتحار، وحركات التصحيح والإصلاح، ضرباً من الفتنة والخروج على «إجماع الأمة». «الأمة» التي لا تجتمع إلا على قتل ابن بنت نبيّها، في اتصال لا ينقطع، قتلاً للذين يرون فيهم المثل الأروع، والشاهد المقيم على عظمة التضحية، والفَنَاء في ذات الله.

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 4440 - الأحد 02 نوفمبر 2014م الموافق 09 محرم 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً