العدد 4450 - الأربعاء 12 نوفمبر 2014م الموافق 19 محرم 1436هـ

الأعمال الإبداعية... المهمَّشون والتاريخ

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

أجمل وأروع الأعمال الإبداعية في القصة والرواية والسينما والمسرح واللقطة (الصورة) واللوحة، وغيرها من فنون التعبير، تلك التي رصدت وترصد المهمّشين، وقدَّمت وتقدّم إلى العالم قيماً ومواقف ومفاهيم عميقة وعالية من خلالهم؛ لأنهم أكثر البشر التصاقاً بالعالي من القيم، والعميق من الحس، من هامشهم وبساطتهم يبرز عمق المفاهيم والمواقف والقيم تلك. تأتي القيم تلك أحياناً في صورة الوقوف على الناقص منها، وتلك التي تم استدراكها، والإضافة عليها بشكل فارق.

معظم الأعمال الإبداعية التي أنتجتها المخيلة البشرية ظلت محتفظةً بوهجها ودفئها وروحها وتحريضها الجميل، بالانحياز إلى أولئك، بقدرتها على الاستمرار والتجديد والتحوُّل، كلما أمعن بشر الأزمنة في غيابهم عن القيم، وكلما تخلّوا وتجرّدوا ممّا يدل عليهم، وكلما ظلّوا -أيضاً- ملتصقين ومنحازين ومنافحين عن الجميل والمضيء والمشرّف فيهم. وفي ذلك إضاءة للحياة التي في سبلها يسعون، لا لملء الفراغ؛ بل لسدّ الفجوات المهولة في الأخلاق والضمير والتمرد على الفطرة وأسلوب التعاطي مع تفاصيل تلك الحياة، مما يحول بينهم وبين الوصول إلى المعنى الكامن فيها، لإعادة بناء وعي إنسانها، إنجازاً وإشاعةً للحب والسلام، والاطمئنان إلى أن هذا الكوكب الذي يمتلئ بنا يستحق أن يكون أفضل مما هو عليه؛ على رغم ما يعانيه.

الذين رصدوا الشوارع المنسية، والبيئات المُعتّم عليها، والبشر المسجونين في ما بعد الهامش والغياب، والذين أضاءوا المُغيَّب، وفضحوا الأسرار، واقتحموا الأسوار التي تكمن من ورائها الفظاعات، والذين سمّوا الأشياء والممارسات والمواقف بأسمائها، وصنعوا الفارق أيضاً، هم جنباً إلى جنب مع الحضور الذي لا يموت، والقدرة على الحياة في الأزمنة مهما امتدّت وتطاولت. هم جزء من ذلك الزمن، وفي الصميم من روحه، وما تبقى منه من ضوء وقيمة.

وظيفة الأعمال الإبداعية، وخصوصاً في مجال الفن، إزاحة الوهم الذي يكتنف ويكتنز به الواقع. كل واقع. لا يمارس الفن دور نسْخ ذلك الواقع، برجاله والمواقف، والأمراض التي يمكن تشخيصها، وتلك العصيّة على التشخيص، في الأعمال تلك. ليس دورها المصالحة مع ذلك الواقع، والدخول في حلف معه، والذين يصنعون المُشوّه والقبيح، قبولاً لرشوته، وإقبالاً على إغراءاته، والتعامي عن المظلم والقبيح فيه. دور تلك الأعمال أن تكون يقِظة وبأكثر من حاسّة وطاقة على الانتباه لكل ذلك، تعرية وفضحاً له، من جهة، وإبرازاً وإضاءةً للنقيض منه.

وفي التاريخ، الصورة مُعاكسة. أكثر الذين كتبوا التاريخ؛ أياً كانت صيغة وشكل الكتابة تلك، أو طُلب منهم أن يفعلوا ذلك، لا يرون في أولئك المهمّشين إلا تشويشاً وتشويهاً للصورة التي يُراد رسمها، والمُثُل المصطنعة التي يُراد إبرازها، والإنجازات الكاذبة والفارغة التي يتم تهويلها واختراعها مما يُراد أن يُقدَّم إلى العالم باعتباره خلاصات النُبْل البشري؛ فيما هو خلاصة الخِسّة ولُبُّها وموطن عارها.

في مثل تلك الكتابة يظل إما المال مهيمناً على تثبيت تلك التفاصيل؛ وإما الجزع والخوف. وفي الاثنين تُذبح الحقيقة على نطْع المصالح والأطماع والبحث عن النفوذ؛ وهو نفوذ كاذب ومريض ولا يحتاج إلى أدوات صلبة لاختبار رخاوته ووهنه!

كتابة تاريخ مثل ذاك، تسهم في الأخذ بالحياة إلى الانسجام مع مجهولها والعمى، والنوم على مكامن التهديد لإنسانها، والذي من المفترض أن يكون الصانع لها، بمعنى اكتشاف آفاقها. لا مكان للإنسان المهمّش في المعلوم من ذلك التاريخ؛ إذ تقتضي أدوار وأهداف كتابته والذين يقفون وراءه، أن يكون أداةً تنجز الدور ثم تتوارى مع الحرص على عدم ترك دليل على مثل ذلك الإنجاز، مما يمكن أن يُنسَب لها ولو بشكل عابر.

لا مكان للمهمّشين الذين صنعوا معظم الإنجازات في التاريخ. لا يلتفت التاريخ في كتابته إلا لذوي السطوة والحظوة والجاه. معظم ذلك لم يُقدَّر لهم أن ينالوه لولا الدفع بالمهمّشين للقيام بالإنجاز نيابةً عنهم، ليتم بعد ذلك إقصاؤهم عن المشهد؛ بحيث لا أثر يدل عليهم. مثل ذلك التاريخ لا يمكن الاطمئنان له في الحاضر، كما لم يطمئن له المغلوبون على أمرهم بالأمس؛ لأنه أسهم في نفيهم، ويسهم اليوم في مراودة الحاضر عن نفس المنتسبين له.

المهمّشون يحتلون المتْن في الأعمال الإبداعية. في التاريخ هم في الهامش، ويحتل المتْن في التاريخ الذين لم يصنعوه إلا في جانبه المظلم والمرعب والعار منه!

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 4450 - الأربعاء 12 نوفمبر 2014م الموافق 19 محرم 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 3 | 11:49 م

      لا يهم

      المبدعون المهمشون مكتفون بالحياة في ذاكرة المكان والزمان، لا يعبأون بالتاريخ كما لا يعبأ بهم.

    • زائر 2 | 10:54 م

      الخلود لمن؟

      المبدعون مهمشون في حياتهم. خالدون بعد وفاتهم. سيبقون خالدون طوال الدهر. يذكرون و السياسيون في زمان حياتهم ينسون. الا تصدقني؟. لنقم بامتحان. من كان الخليفة العباسي زمن الكندي ؟. من كان ملك بريطانيا زمن شكسبير؟ من كان الخليفة الاموي ايام ابن رشد؟؟؟

    • زائر 1 | 10:53 م

      الخلود لمن؟

      المبدعون مهمشون في حياتهم. خالدون بعد وفاتهم. سيبقون خالدون طوال الدهر. يذكرون و السياسيون في زمان حياتهم ينسون. الا تصدقني؟. لنقم بامتحان. من كان الخليفة العباسي زمن الكندي ؟. من كان ملك بريطانيا زمن شكسبير؟ من كان الخليفة الاموي ايام ابن رشد؟؟؟

اقرأ ايضاً