العدد 447 - الأربعاء 26 نوفمبر 2003م الموافق 01 شوال 1424هـ

الاستراتيجية الأميركية تجاه إيران

بعد إقرار وثيقة الأمن القومي الأميركي

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

شاءت الأقدار أن تبقى العلاقات الإيرانية الأميركية رهينة سياسات استحكمت فيها الأيديولوجيا الإمبريالية بقسوة حتى غدا الأمر وكأنه مجموعة من العقائد اليمينية الصمّاء المُتقَولبة غير القابلة للتسييس أو التعاطي وفق منظومة السيادة والاستقلال الوطني، فتأثرت بذلك خطوط محاذية للهيب تلك العلاقة المأزومة بل وفي بعض الأحيان أصيبت بالتعثر والجمود.

إن رحلة الشد والجذب القائمة بين الجمهورية الإسلامية في إيران والولايات المتحدة الأميركية ليست نتاج مماحكات وتباينات آنية في مفاهيم إدارة التنافس والصراع القِيَمي والبراغماتي، بل هو اجترار لسلسلة طويلة من التنابذ الثنائي، المهووس بخطاب سياسي شديد اللهجة يقترب بالأشياء حينا إلى حافة الهاوية وحينا إلى التهديد السافر والتضاغط ثم يخبو بحذر ليبقى ثأرا نائما لكنه جاهز كي يستيقظ في أي وقت مُعيدا معه أحقادا وتناكفا واستصحابات تفرض أجندتها على الحدث .

كما إن التاريخ المُثخن بالعداء والذاكرة البائسة والاستقطاب الثنائي بينهما جعل محاولات إعادة المياه إلى مجاريها أمرا كسيحا لا يُمكن البناء عليه أو الاتكاء على مرتكزاته، وخصوصا الذاكرة الإيرانية المُفعمة بحوادث تراجيدية تُجدد نفسها على الدوام حين ترتفع قبضات أيدي المتظاهرين في شوارع طهران وتعلو جماجمهم المُعصّبة بشعارات الثورية والانتقام... فمن إسقاط حكومة مصدق في العام 1953 من قِبَل وكالة المخابرات المركزية السي آي اي إلى معاضدة النظام البعثي في العراق إبّان حرب الخليج الأولى ومرورا بضرب المنشآت النفطية في عبادان العام 1988 من قِبَل الأسطول الأميركي المرابط في مياه الخليج والبحر الأبيض المتوسط وبحر العرب ومن ثم إسقاط الطراد الأميركي فينينس لطائرة الإيرباص الإيرانية 1987 ومقتل جميع ركابها الـ 290.

ثم تتابعت تلك السياسة الأميركية المعادية تجاه إيران لتُضيف ما يكفي لوأد أي تحرك في الاتجاه الآخر، فقد دأبت الإدارات الأميركية المتعاقبة على البيت الأبيض على:

1- اتباع سياسة الاحتواء المزدوج Dual Contaninment 1993 ضد العراق وإيران والتي كان مُنظّرها السفير مارتن انديك.

2- سن قانون مقاطعة الاستثمار المعروف بقانون «داماتو» 1996 والذي يحظر على الشركات الأجنبية استثمار أكثر من 40 مليون دولار في قطاعي النفط والغاز الطبيعي.

3- إبراز إيران كدولة مناوئة للسلام العالمي أمام الأسرة الدولية.

4- عرض ومتابعة الشكاوى القانونية في المحاكم الأميركية ضد إيران.

5- الضغط على روسيا والصين لوقف تعاونهما النووي مع إيران.

6- الضغط على أوروبا واليابان والعالم العربي وآسيا الوسطى والقوقاز بهدف تقليص تعاونها مع إيران وتقييده بشروط.

7- الضغط على تركيا لإيقاف اتفاق الغاز المُسال الضخم بين طهران وأنقرة والذي وقعته حكومة نجم الدين أربكان (مدة العقد 20 عاما بكلفة تقارب 23 مليار دولار).

8- تخصيص مبلغ 20 مليون دولار من قِبَل الكونغرس الأميركي قبل عامين بغرض ممارسة أعمال استخبارية سرية ضد إيران.

9- تدبير حملات إعلامية واسعة بشأن المخاطر الناجمة عن قدرات إيران الصاروخية والعسكرية ولاسيما على صعيد القدرات النووية.

10- تشغيل الشبكات التلفزيونية والإخبارية الفارسية الموجهة ضد إيران.

11- زج اسم إيران فيما يُسمى بـ «محور الشر» في يناير/ كانون الثاني 2002.

12- إلغاء الحضر الأميركي على تصدير الأسلحة إلى طاجيكستان لخلق توازن جديد في آسيا الوسطى.

13- العمل على مد حلف الناتو إلى آسيا الوسطى بهدف فصل إيران من الشمال والشمال الشرقي عن كل من روسيا والصين.

14- الاندفاع نحو آذربيجان وأوزبكستان بعد 11 سبتمبر/أيلول 2001 لخلق فرص حقيقية للوجود الأميركي في المنطقة.

إلاّ أنه ووفقا للمعطيات الاستراتيجية الأمنية للولايات المتحدة بعد حوادث 11 سبتمبر فإن المشهد غدا مختلفا جدا، وخصوصا بعد إقرار وثيقة استراتيجية الأمن القومي الأميركي التي حتّمت الانتقال من العمل التعاوني نسبيا مع القوى الدولية إلى التحرك المنفرد متجاوزة كل مكتسبات العمل الجمعي والقانوني الدولي السائد منذ الحرب العالمية الثانية، ورفض الارتكاز على العقوبات بالأساس في صنع السياسة الخارجية وخصوصا لما لها من آثار سيئة على الاقتصاد الأميركي واللجوء مباشرة إلى القوة العسكرية.

وعليه فإن السياسة الأميركية تجاه إيران باتت أكثر تماسا ومباشرة من ذي قبل وخصوصا مع تنامي بعض الاتجاهات القوية داخل الإدارة الأميركية ممن يسمون بالصقور الذين يتبنون توجهات متشددة في السياسة الدولية وخصوصا تجاه إيران، إذ يضعونها هدفا مستقبليا لتدخل أميركي مستقبلي، ويشمل هذا الاتجاه أسماء مثل ريتشارد بيرل، وبول ولفوويتز ودوجلاس فيث، وهؤلاء يؤكدون أن الولايات المتحدة يجب أن تستغل فرصة النجاح العسكري الكبير في العراق ضد الأنظمة المتمردة اليوم قبل الغد وأن برامج إيران النووية وبرامجها لتطوير الأسلحة غير التقليدية ودعمها العسكري والمالي لحركات المقاومة الفلسطينية ولحزب الله، ودورها المزعوم في قتل أفراد البحرية الأميركيين في بيروت العام 1983، تعد جميعها أسبابا كافية لتوجيه ضربة عسكرية خاطفة إليها.

وصاحبت تلك الرؤية الراديكالية ظهور دراسات من مراكز أبحاث يمينية ساعدت في إذكاء تلك الاستراتيجية بخطط أخرى تدعيمية، وهو ما نراه في حديث مدير مؤسسة واشنطن رابت ساتلات الذي ذكر صراحة في فصلية المصالح القومية أن واشنطن «يجب أن تحاصر إيران في قضايا الأمن الداخلي والخارجي بحيث تشغلها عن التقدم ووضع العراقيل أمامها، وزجها في مواقف تضطر فيها إلى الدفاع اليومي عن نفسها ضد عشرات الأنواع من الاتهامات والمخاطر وهو ما سيؤدي إلى استياء عام في الداخل بالإضافة إلى وجود الثغرات السياسية في نظام الجمهورية الإسلامية وازدياد المشكلات يمكن أن يضع البلاد أمام تحديات كبيرة».

كما علّق ريشارد بيرل أحد القادة الجمهوريين الكبار في خطاب له بتاريخ 14 نوفمبر/تشرين الثاني 2001 في مؤسسة السياسة الخارجية بـ«أن الطريق الوحيد لمواجهة إيران بعد حوادث 11 سبتمبر هو تغيير بنية السلطة في إيران».

إلاّ أنه ومع قراءة معطيات المعادلة الدولية الجديدة في العلاقات الدولية الإقليمية يتبيّن لنا أن الولايات المتحدة الأميركية انتقلت من سياسة الردع والاحتواء إلى استراتيجية الهجوم الوقائي ومن الردع الاستراتيجي التي كانت سائدة في الحرب الباردة إلى الحرب الاستباقية Preemptive وهي أجندة تذهب إلى الحد الأقصى في العلاقات الدولية، وخصوصا أن الولايات المتحدة عملت بذلك المبدأ منذ العام 1800 وخاضت منذ قيامها وإلى الآن أكثر من 131 حربا من واندود كني إلى العراق إلاّ أنها لم تحصل على تفويض شرعي من الكونغرس سوى في ستة حروب فقط .

ومع انتهاء السلام الأميركي Pax Americana كما قال صاحب كتاب نهاية العالم أمانويل فالرشتاين فإن السياسة النيوإمبريالية تبقى سمة أميركية فاقعة، ليبقى السيناريو الأوفر حظا بالنسبة إلى اليمينيين في الإدارة الأميركية ومن لفّ لفهم لإسقاط النظام الإسلامي الحاكم في إيران كالتالي:

* توجيه ضربة قاصمة إلى برامج التسلح الإيرانية التي تطورت كثيرا بفعل الدعم الروسي والهندي والأوكراني.

* توجيه ضربة قاتلة إلى التيار المحافظ في المشهد السياسي الإيراني عن طريق اختراقات تنظيمية واغتيالات سياسية على النحو الذي يفسح المجال لتيار الإصلاح المتطرف المُستقوي بضغوط الإدارة الأميركية.

* إثارة القلاقل العرقية والإثنية داخل إيران، وخصوصا ما يتعلق منها بالورقة الآذرية بعد أن انحسرت التطلعات الأميركية للاعتماد على الورقتين الأهوازية والكردية، فالتقارير الديمغرافية تشير إلى أن الآذريين يشكلون أكثر من 30 مليون نسمة، وعلى رغم أنه لا توجد حتى الآن أدلة قوية تؤيد الفكرة القائلة بأن الأقلية الآذرية يتم إعدادها لمواجهة حكومة طهران، فإن صانعي السياسة في واشنطن أبدوا خلال الفترة الماضية اهتماما في هذا الاتجاه السياسي، ففي 9 إبريل/نيسان الماضي تحدث الناشط في مجال الحقوق الثقافية للأقلية الآذرية الإيرانية ماحمودي شيهريجاني، وهو معارض سياسي ويقيم حاليا في الولايات المتحدة، أمام جمهور من صانعي القرار والدبلوماسيين في جامعة جون هوبكنز الأميركية، إذ أكد ذلك بما يفي ومتطلبات اللعب بتلك الورقة على رغم أن الآذريين في إيران ليسوا أقلية مضطهدة أو مسحوقة ليس لأنها نائلة حقوقها فقط بل لأن تعدادها ينفي عنها صفة الأقلية، علما بأن مسئولين كبارا في النظام الإسلامي هم آذريون.

إلاّ أن تلك السياسة النيوإمبريالية التي رسمتها أميركا بعد حوادث سبتمبر قد لا تستطيع الدخول في مواءمات المعادلة الإقليمية والدولية الفِعلية إلى الحد الذي يمكّنها من تنفيذ تلك السياسة ضد إيران على غرار ما فعلته في العراق، والنتائج المأسوية التي نجمت عن احتلال ذلك البلد وهو ما يُمكن تحديده في الآتي:

(1) على رغم تلويح الإدارة الأميركية باحتمال توجيه ضربة عسكرية مباغتة إلى إيران فإن القوة التي تتسم بها إيران، من الناحيتين العسكرية والدبلوماسية، ستجعل واشنطن تعمل وقتا طويلا للحصول من طهران باللاحرب ما يمكنها أن تناله بالحرب، وهو ما يدركه الإيرانيون جيدا، ما يجعلهم يعملون على دحض الذرائع التي يمكن أن تفضي إلى عمل مسلح، وخصوصا أنهم (أي الإيرانيين) كانوا (ومازالوا) يعتقدون أن هدف الإدارة الأميركية من الحرب ضد العراق (بالإضافة إلى كسر شوكة القوة العسكرية العراقية وإضعاف تأثير البُعد القومي والاستراتيجي للعراق تجاه القضية الفلسطينية بشكل خاص والقضايا العربية بشكل عام) محاصرة إيران جغرافيا وسياسيا الأمر الذي يجعلها أكثر قابلية للابتزاز، والرغبة في إخضاع أسلحتها المتطورة وبرنامجها النووي المُتعاظم للمجهر الأميركي.

(2) كما أن الولايات المتحدة وبعد تصاعد خطر المقاومة العراقية ضدها في العراق باتت أحوج ما تكون لطهران للعب دور ما (ولو محدود) في الملف العراقي الشائك لما للإيرانيين من نفوذ كبير على قطاعات واسعة من منظمات وأحزاب عراقية فاعلة، فعلى رغم حجم المشكلات السياسية والتاريخية وتداعياتها على البلدين (العراق وإيران) فإن بينهما قواسم مشتركة لا يمكن للسياسة ولا الساسة أن يغيروا من حقيقتها وجلائها، فالعراق بالنسبة إلى إيران (والعكس صحيح) غور استراتيجي رئيسي تُبنى عليه مصالح الدولتين؛ وممر مهمّ يمكنهما من العبور نحو الكثير من المواقع الإقليمية في المنطقة وهو ما عبَّر عنه وزير الخارجية الإيراني كمال خرَّازي في مقابلة مهمّة أجرتها معه فصلية «إيران والعرب» في عددها ما قبل الأخير.

كما أن واشنطن وإن لم ترتض لإيران أن تلعب دورا ما في العراق فإنها على الأقل ستحاول تحييدها إزاء التطورات الحادثة في العراق، وواشنطن تعلم جيدا حجم الحضور الإيراني في العراق الذي يمكن أن يعرقل مخططاتها أو يدعمها.

(3) إن ضرب إيران قد يشعل منطقة «الشرق الأوسط» المتوترة أصلا ويزجها في اللامتوقع، فلا يمكن تصور أن إيران ستقف مكتوفة الأيدي إزاء أي اعتداء يشن عليها سواء من «إسرائيل» أو من الأساطيل الأميركية المرابطة في المنطقة، والواقع أيضا أنه إذا ما أقدمت واشنطن على عدوان عسكري ضد إيران، فإنه وبالإضافة إلى أن طهران ستحتفظ بحق الرد المناسب لنفسها، فإنها قد تُشعل الجبهة الشمالية لـ «إسرائيل» عبر حزب الله، وهو ما تخشاه «إسرائيل» بشدة.

في النهاية فإن واشنطن تدرك جيدا أن إيران، بجيشها القوي ومصالحها المتينة والمتشابكة مع قوى عالمية وعلاقاتها المتنامية مع محيطها الإقليمي ونظامها السياسي الديمقراطي ونخبتها السياسية والفكرية النشِطة ومجتمعها الذي ينضج عبر جدل طبيعي وخلاّق مهما كانت درجة حدته، لن تكون أبدا لقمة سائغة أبدا في فم القوة الأميركية

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 447 - الأربعاء 26 نوفمبر 2003م الموافق 01 شوال 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً