العدد 4480 - الجمعة 12 ديسمبر 2014م الموافق 19 صفر 1436هـ

«الأفكار... الوحوش المفترسة»

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

«حقاً، الأفكار أحياناً وحوش مفترسة»، كما كتب أدونيس. وفي اتجاهين يذهب ذلك المعنى؛ الأول من حيث القدرة على إنهاكنا. القدرة على إدخالنا في دوّامات تظل طاقاتنا على تنظيمها والإمساك بتفاصيلها نسبية، وتظل الإحاطة بتوظيفها محفوفة بالكثير من السهو والنسيان. والثاني، من حيث قدرتها - في كثير من الأحيان - على إيهامنا بأنها النهائية، والفصْل، ولن تصغيَ لما دون ما أمسكنا به وقبضنا عليه، ولن يطول الأمر لنكتشفَ أنها تنسخ بعضها بعضاً، ويحاجج بعضها بعضاً، ولن تبلغ النهايات تلك؛ إذ لا فصْل في عالم الأفكار.

ميّزتها أنها نسبية. أنها متجدّدة وقادرة على الانقلاب على نفسها. سينالنا شيء من ذلك الانقلاب، ومن ذلك الافتراس. الأفكار يفترس بعضها بعضاً. والأفكار العميقة والكبيرة، هي القادرة بامتياز على ذلك الفعل. لن تصمد الأفكار الصغيرة، والعابرة، والساذجة أمام الممتلئ والصلب من المستقبِل لها.

ما سينالنا من ذلك الافتراس، ومن تلك الوحوش، يتحدّد في طبيعة قدرتنا على عدم التسليم لها، وعدم اعتبار الأفكار حقائق لا تقبل التشكيك ولا تقبل النسخ ولا تقبل المحاججة والردّ، والرفض أيضاً. الأفكار المستقرة لا تصنع حياة. وحدها الأفكار المتحرّكة والمتحوّلة هي التي تصنع الحياة؛ وليس ذلك وحده. إنها تصنع أرواحاً وقيماً ومعاني فيها. الحياة من دون كل ذلك لا قيمة لها هي الأخرى. تفترس البشر بالفراغ واللاجدوى والإحساس بالتفاهة. ذلك هو الوحش الذي يُخشى منه، حين تنعدم الأفكار أيضاً. حين تضمحلّ ولا يكون لها مكان في تفاصيل الحياة؛ إذا صحّ أن يطلق عليها حياة أساساً!

لن تجد بين الذين طلعوا على العالم بالأفكار، أمس، واليوم، والذين سيطلعون بها غداً، من يعيش حال تسليم واطمئنان ووثوق. وهنالك يقبع الوحش الذي يستفزّهم كي يُواجهوا بما يملكون من قدرات، أو النجاة منه بحثاً عن سلامة واطمئنان، سيظل نسبياً وإن توهّموا خلاف ذلك.

نحن إزاء وحشين، في حضور الأفكار، وفي حال غيابها واضمحلالها. والإنسان له خيار إلى أي وحش ينحاز؛ ذلك الذي يتيح له أن يقدّم نفسه إلى العالم والحياة بشكل لائق يمثله، ويمثل الحجم الهائل من الأفكار والإبداع والانتباه فيه؛ أو ذلك الذي يرسله دفعة واحدة إلى التفاهة حين تتعطّل فيه كل تلك القدرات والطاقات.

ولا مُتعة في الأفكار التي تدشّن عزلتها وانفصالها. تعاني غربة في أسوأ صورها ودرجاتها. غربتها في أن تكون مستسلمة ومتواطئة وكأنها شبحُ وحشٍ؛ ولكنها لن تكون وحشاً بالمعنى الذي ذهبنا إليه.

يبقى ترويض تلك الأفكار المتوحشة هي الحد الفاصل. الفاصل في فهم الترويض نفسه والمُؤدّى إلى توظيفه، من دون أن ننسى أن لبعض تلك الأفكار قدرتَها على تزيين الخراب واستدراجه، والعمل على إغواء حامليها - وهو إغواء مريض في كثير من الأحيان - على أن يستأنفوا دور تمزيق لُحْمة هذا الكوكب المُبْتلى بالصراعات التي لم تكن وليدة فراغ؛ بل ابنة أفكار على تلك الشاكلة. والأفكار التي تفتِّت وتمزِّق الاجتماع البشري هي الوحوش الضارية التي لا تستقيم ولا تنمو - بوجود حاضناتها - إلا باجتراح ورسم خريطة الخراب ذاك، بتفتّح شهوة إحالة كل شيء إلى رماد!

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 4480 - الجمعة 12 ديسمبر 2014م الموافق 19 صفر 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً