العدد 4480 - الجمعة 12 ديسمبر 2014م الموافق 19 صفر 1436هـ

أو تعفوا عنه

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

في روايةٍ وَرَدَت في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، مفادها بأنه قد جيء بأسيرٍ من الخوارج إلى الوليد بن عبد الملك، فقال له الوليد: ما تقول في الحجَّاج (بن يوسف الثقفي)؟ فقال: وما عَسَيتُ أن أقولَ فيه؟ هل هو إلاَّ خطيئة من خطاياك، وشَرَرٌ من نارِك؟ فَلَعَنَكَ الله ولَعَنَ الحجَّاجَ معك.

فالتفتَ الوليدُ إلى عمر بن عبد العزيز وكان حاضراً في المجلس فسأله: ما تقول في هذا؟ قال: ما أقول فيه؟ هذا رجلٌ يشتمكم، فإما أن تشتموه كما شَتَمَكم، وإما أن تعفوا عنه. فغضِبَ الوليد «من رد» عمر بن عبد العزيز. (انتهى).

وفي رواية أخرى ضمن موضع آخر، ذكرَ ابن الأثير في كتابه أن أبا الفوارس، وهو أحد رؤساء القرامطة قد أحْضِرَ في سَوادِ الكوفةِ بعد أسْرِهِ بين يدي المعتضِد، فقال له (الأخير): أخبِرنِي: هل تزعمون أن روحَ الله تعالى وأرواح أنبيائه تحلُّ في أجسادكم، فتعصِمكُم من الزَّلل وتُوفَّقكم لصالح العمل؟

فقال: يا هذا! إنْ حَلَّت روحُ الله فينا فما يَضُرُّك؟ وإنْ حَلَّت روحُ إبليس فينا فما ينفعُك؟ فلا تسأل عمَّا لا يعنيك وسَلْ عمَّا يخُصُّك. فقال المعتضِد: ما تقول فيما يخصّني؟ قال أبو الفوارس: أقول، إن رسول الله (ص) ماتَ وأبوكُم العباس حيٌّ فهل طَلَبَ الخلافة أمْ بايَعَهُ أحدٌ من الصحابةِ على ذلك؟ ثم ماتَ أبو بكر الصديق فاستخلف عُمَرَ وهو يرى موضع العباس ولم يُوصِ إليه، ثم ماتَ عُمر بن الخطاب وجعلها شورى في ستةِ أنفُس ولم يُوصِ إليه ولا أدخله فيهم، فبماذا تستحقون أنتم الخلافة وقد اتفق الصحابةُ على دفع جدِّك عنها؟

وهنا، أفْحِمَ المعتضد، وأمرَ بالقائد القرمطي، فعُذِّبَ وقُطِعَت يداهُ ورِجلاهُ ثم ضُرِبَت عنقه. انتهى النقل عن ابن الأثير.

الحقيقة أن اختلاف نموذجَيْ الحكم، في الحادثتيْن المذكورتيْن في التعامل مع الخصوم ما بين الخليفة العادل عمر بن العزيز والمعتضِد العباسي لا تحتاج إلى توضيح، لكن ما يحتاج إلى تبيين هو، العلاقة ما بين منهج الحكم وسيادته.

بمعنى علاقة منهج السلطة بالقدرة على الحكم بطريقة لا تُغطِّي الأرض فقط بل تنفذ إلى قلوب الرعية فتجرها إلى القبول والطاعة. فالسيطرة على الأرض دون البشر لا تُسمَّى سيادة بقدر ما هي استيلاء أجوف على أرض غير مستقرة وكأن السيادة عليها مكتوبة على الماء لا أكثر.

فعادة ما تنشأ علاقة عضوية، ما بين تطبيق العدالة وشفقة الحاكم وسِعَة صدره من جهة، وقدرة الأخير على السيادة الاجتماعية الأفقية من جهة أخرى، وبالتالي ظهور ما يُسمَّى بالطاعة الطوعية، التي تجعل الناس تتداعى إلى القبول بالحاكم حاكماً عليها لذلك الاعتبار وليس لاعتبارات العطاء، التي لا تتساوى عادةً مع قدرة الشفقة والتراحم في التأثير في الناس.

فسليقة البشر، تميل عادةً نحو مَنْ يُشعرها بالعدالة والشفقة، والنزول إلى حيث هي. فالشعوب هي بالأساس كتل بشرية، تتزاحم فيها الرغبات والمشاعر والميول المتباينة، وبالتالي يصبح ضبطها خاضعاً لمؤشر أدنى/ أعلى ما فيها من حركة غرائزية مطلقة في جموحها، فتحتاج إلى تحديد وضبط، ولكن بطريقةٍ لا تنطوي على القسوة والشِّدة.

معادلة القوة في السيادة قد تُنتِج صورة خادعة من الأمان. فَتَلقِّي الناس للطاعة يُصبح مفروضاً بالإكراه، وهو ما يعني أنهم يقبلون بظاهرهم، ويرفضون بباطنهم، وبالتالي هم مهيأون للإنقلاب على الطاعة الظاهرية، متى ما سَنَحَت الفرصة لأن يُظهروا باطنهم الرافض للحكم والحاكم، سواء بالاحتيال على سيادته أو بركوب موجات التحوُّل السياسي والهزَّات الاجتماعية كيفما اتفق، باعتبارها خلاصاً من «مفروض بالقوة» عليهم.

أما معادلة الرحمة والشفقة (التي هي جوهر القانون كما كان يقول عنها شكسبير) المقرونة بخطاب عقلاني قادر على النفاذ إلى العقول والقلوب، فإنها تصنع قبولاً اجتماعياً بواقع الحال، يكون ظاهره متفقاً مع باطنه. بمعنى تحقق القبول الظاهري والباطني.

وعندما يتحقق هذا الاتفاق يصبح المشهد أقل تعقيداً أمام مَنْ هم في السلطة، وبالتالي يؤثر ذلك على شكل وطبيعة الخطط الموضوعة، وعلى معرفة الاتجاهات الاجتماعية السياسية لدى الناس طولاً وعرضاً، فضلاً عن منسوب حركتها.

استحضر هنا حادثة ذكرها الطبري تؤكد على ما أقول من أهمية ومركزية عنوانَيْ الرحمة والشفقة لدى الناس، وما يفضيه ذلك من علاقة خاصة تجمعهم بمن يُعاملهم بذلك. يقول الطبري: «لما جيء ببابِك الخرَمي أسيراً ومَرَّ من أمامِ صفوفِ الأسرى الذين كانوا في حَبْسِهِ لطموا وجوههم وبكوا، فانتهَرَهُم الأفشين قائد الجيش العباسي، فقالوا: كان يُحسِنُ إلينا».

لقد أثبتت التجارب السياسية، وبالتحديد تجارب الحكم، كيف أن هذا العنوان يُعَد أمراً غايةً في الأهمية، لكل مَنْ أراد السيادة الأفقية الممتدة والمتجذرة في الناس، وحصوله على طاعتهم الطوعية. وما النموذج الذي ذكرناه عن الخليفة عمر بن عبد العزيز إلاَّ صورة جلية على ما أقول.

فهذا الحاكم العادل، كان واسع الصدر أمام رعيته، على الرغم من أنه كان قادراً على أن يسود بقوة ما أوتي مِنْ سلطة، لكنه لم يفعل، وآثر السيادة من خلال العدالة الحقيقية، ورد الحقوق والشفقة على الناس والتراحم معهم.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 4480 - الجمعة 12 ديسمبر 2014م الموافق 19 صفر 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 5 | 1:31 ص

      قال تبارك وتعالى ((فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر))..ولنا في شعرة معاوية

      خير مثال..يقال أن أعرابياً سأل معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه : كيف حكمت الشام أربعين سنة ولم تحدث فتنة والدنيا تغلي ؟ فقال رضي الله عنه : "إن بيني وبين الناس شعرة إذا أرخوا شددت, وإذا شددت أرخوا ". هذه المقولة مع كونها نبراساً في أحكام السياسة فهي تدخل في كل سياسة حتى في سياسة الإنسان مع نفسه, فلو طبق الإنسان هذه القاعدة لصار من أعقل الناس كيف لا وهو يعطي كل شيء حجمه ويتلافى عمَّا لا يستحق النظر،(منقول)

    • زائر 6 زائر 5 | 2:37 ص

      كيف يقبل العقل

      عجبا كيف يكون الظالم والمظلوم رضي الله عنه..

    • زائر 4 | 12:28 ص

      شكرا أستاذي

      أبدعت في إيصال الفكرة

    • زائر 2 | 9:54 م

      وهل يعتبرون

      هناك الكثير ممن يحب ان يبطش ويرى الثكالى يجثون على ركبهم طلبا لعفو وأقول هناك من لا يؤمن بالآخرة وحسابها لذلك يتظاهر كذبا ويبطش بمعارضيه كانو على حق او دون ذلك

    • زائر 1 | 9:24 م

      حقيقة واقعة

      من الحقائق في علم الاجتماع ، ان الفرد و لأجل التباهي يبحث قي الماضي و يعظمه و ذلك عند فقدانه لأية حسنة في وضعه الحالي. أمة تكرر قالوا و قال. مع كل هذا التراث، أليس من المعيب و المخجل ضعكم؟.

اقرأ ايضاً